Saturday, October 6, 2018

التمذهب



محاضرة من (مساق) قدمها: الشيخ محمد بحيري 


* المادة في ملف PDF: من هنــــا

أهمية الموضوع

§       مسألة التمذهب من أهم المسائل التي تعرض لطالب العلم في بدايات الطريق، لأن المرء إذا أراد أن يصل لغاية معينة فإنما يسأل الذين سبقوه في الوصول لها، والعلم كالغايات التي نطمح لها في هذه الحياة، إلا أنه يختص بالغرض الأخروي، فإذا أردت الوصول لغاية معينة في العلم إنما تسأل من سبقوك فيه.
§       قديما كان الناس تشيع فيهم المذاهب، ولها أئمة يدرسونها ويفقهون الناس فيها ويفتون على وفقها، ومن أراد طلب العلم إنما يلزم الشيخ أو يرحل له، فالبلاد آنذاك كانت على وفق مذاهب منتشرة لها أئمة بارزون.
§       حدثت في الأمة حوادث تاريخية وبعض الوقائع التي جعلتها تعيد النظر في مسألة التمذهب، وظهرت بعض الدعاوى التي تطالب بأن يتفقه على الراجح لا على وفق مذهب معين، فظهر قوم يقولون إنما نتفقه على وفق الدليل على وفق المذهب، فندور مع الدليل حيث دار، ولا نتقيد بمذهب أناس معين، أو إمام معين، لأن هذا التمذهب أدى إلى التحجر والتعصب والمحاريب الأربعة التي ظهرت في بعض الأماكن كما كان لفترة قريبة في الشام وغيرها.

أسئلة يجيب عليها الموضوع

§       نحن إذ نحكم في هذه القضية لا بد من أن ننظر لها من أصلها، ونقف مع التمذهب والأئمة من البداية، وكيف وصلوا لما وصلوا إليه؟ وهل هذا التعصب والتحجر والمحاريب الأربعة التي نشأت في بعض البلاد كانت نتيجة للتمذهب أو لأمر زائد عليه؟ 
§       قبل الوقوف مع الوقائع المتأخرة علينا الوقوف مع التمذهب من حيث أصله، فهل هو بدعة أنشاها المتأخرون؟ أم أنه كان موجودا في عهد السابقين والقرون الخيرية الأولى؟ وإذا كان موجودا آنذاك فهل كان مبدؤه الفقهاء الأربعة أم ما قبل ذلك؟

تاريخ التمذهب


بداية التمذهب ومدارس الصحابة t

يظن كثير من طلبة العلم أن التمذهب وليد المدارس الأربعة، وهذا الظن ليس بصواب، فالمتأمل في طبقة الصحابة t يجد ثمة صورة للتمذهب كانت موجودة آنذاك: 
§       الصحابة t لم يكن جميعهم مشتغلا بالعلم أو رواية الحديث، فمنهم من اشتغل بالولايات العامة في الدولة الإسلامية كأبي بكر t وإن كان من أعلم الصحابة t، ومنهم من اشتغل بالجهاد كخالد بن الوليد وأسامة بن زيد t، ومنهم من اشتغل بقراءة القرآن، ومنهم بالحديث، ومنهم بالفقه، وغيره، فكل منهم t كان يسد ثغرًا من ثغور الإسلام ويلزمه
§       بعض الذين يشتغلون بالفقه لهم صحبة ينقلون آراءهم، وبعضهم لهم صحبة لا يقومون بذلك، فلا يلزم من كون الإنسان فقيها أن تنقل آراؤه، وربما يكون فقيها خامدًا لا يدرس الفقه ويعتزل في مكان معين، أو فقيها غير خامل وله أصحابه ولكنهم لم ينقلوا عنه؛ فمن الصحابة من كان على درجة عالية من الفقه لكن لم تنقل آراءهم إلى الناس، ويذكر هذا بقول الشافعي -رحمه الله- في المفاضلة بين ليث والإمام مالك -رحمهم الله-؛ فليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به، فقد يكون الفقيه كبيرًا لكن لم يهيء الله له من ينقل آراءه ومذهبه
§       كثير من الصحابة t اشتغلوا بالفقه، إلا أن ثلاثة منهم نشأت لهم مدارس ومذاهب تنقل من خلال التلاميذ، وهذا كلام علي بن المديني -رحمه الله- الذي قال: "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله r من له صحبة يذهبون مذهبه، ويفتون بفتواه، ويسلكون طريقته، إلا ثلاثة: عبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، وزيد بن ثابت t" (العلل)، فتأمل هذه المقولة وما أوردَته من أنه ليس في الصحابة مشتغلين بالفقه أو بالفتوى أو المكثرين منها، وهذا أمر أخص مما يذكره الأصوليون، وإنما هو أمر المدرسية التي يتميز بها إمام عن إمام، فربما يكون الرجل في مكانة عالية من العلم، ولكن ليس له مدرسة أو صحبة تنقل أقواله أو تلاميذ يقومون بمذهبه، فاكتمال هذه العناصر من وجود المدرسة والتلاميذ والنقل هو ما ميز هؤلاء الصحابة الثلاثة t
§       كلمة علي بن المديني -رحمه الله- مركزية في القضية التي نتحدث عنها، كما أنه قال كلمة ينبغي الانتباه لها إذ كأنها تعبر عن التمذهب الذي نتكلم فيه، وهو قوله: "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله r من له صحبة يذهبون مذهبه، ويفتون بفتواه، ويسلكون طريقته" وهذا تمذهب موجود في عهد الصحابة t يحوي: (1)الصحبة، (2)التلاميذ الذين: (1)يذهبون مذهبه، (2)يسلكون طريقته، (3)يفتون بفتواه، (4)ينقلون آراءه.

تلامذة الصحابة ومن يليهم t:
§       لذلك تجد ثمة تطابق بين آراء سعيد بن جبير -رحمه الله- وعبدالله بن عباس t حينما تستقر الآثار المروية عنهما، وهذا التطابق ليس اعتباطي ولكن لأن سعيد بن جبير -رحمه الله- تخرج من مدرسة عبدالله بن عباس t، وكذلك تجد تطابقًا بين طرح عبيدة السلماني أو مسروق أو إبراهيم النخاعي -رحمهم الله- وعبدالله بن مسعود t، وتطابقًا بين آراء سعيد بن المسيِّب -رحمه الله- وزيد بن ثابت t لتخرجه من مدرسته -وإن كان يمكن إلحاقه بمدرسة عمر t، ولكن ما روي عن عمر t مجموعة فتاوى وقضايا كان سعيد بن المسيب أحفظ الناس لها-.
§       تخرج من مدارس الصحابة فقهاء كبار، فمثلًا:


يتبين أعلاه أن مدرسة عبدالله بن مسعود t تخرج منها: الأسود بن يزيد، ومسروق، وعبيدة السلماني، والحارث بن قيس، وتلقى العلم منهم: إبراهيم النخعي، وهو ليس مجرد فقيه تخرج منها ثم خالفها، إنما يذكر علي بن المديني -رحمه الله- أنه ممن كان يفتي بفتواهم ويقول بقولهم، فالمدرسة ممتدة، وينعكس هذا في التطابق بين فتاوى النخعي وفتاوى الطبقة التي سبقته ثم فتاوى بن مسعود t، وتلي طبقة النخعي طبقة أبو إسحاق السبيعي والأعمش وهما من المحدثين -وهو رد على من يزعم أن أهل الحديث لم يكونوا يتفقهون على مذهب معين وإنما وفق الدليل- وسنبين أن كلامنا في منهج التفقه لا الفتوى والتصنيف؛ لأن المرء في الفتوى والتصنيف قد يخالف مذهبه، لكن إذا أراد أن يتفقه فإنه يدرس على وفق مدرسة معينة.

g إشكال: إذا سلمنا ان التمذهب وجد في زمن الصحابة والتابعين t، فهل تزعم أن تمذهبهم كتمذهب المتأخرين؟ 
الجواب: لا أزعم ذلك، ولكن ما هي صورتك الذهنية عن تمذهب المتأخرين؟ أتظن أن أحدًا من الأئمة المتبعين لأئمة آخرين قد تبعه في كل مسائل الفقه بحيث أنه لم يجوز الخروج عنها؟ والجواب: لا، فمثلا في الشافعية من كان يخالف قول الشافعي -رحمه الله-:
§       فكان القفال -رحمه الله- إذا جاءه سائل أحيانًا يسأله: أتريد مذهب الشافعي أم ما عندي؟
§       كما نجد الإمام النووي يخالف في بعض المسائل الشافعي -رحمهم الله- حتى أصبح بعض من يريد إلزام الناس بمذهب واحد يرقع الاحتجاج بذلك بقوله أن الإمام النووي -رحمه الله- كان مجتهدًا رغم أن النووي لم يدع الاجتهاد وأوضح ذلك في كتابه (روضة الطالبين وعمدة المفتين) بقوله: "ولا يلزم أن يخالف المرء مذهبه أن يكون مجتهدًا"، ويقول: "والناس اليوم كالمجمعين أنه لا يوجد مجتهد مطلق"، فمع أن النووي يعتقد أن المجتهد المطلق غير موجود في زمانه لضعف  الآلات وفتور الهمم إلا أنه يخالف الإمام الشافعي -رحمهم الله- في مسائل.
§       أما تقي الدين السبكي -رحمه الله- وهو من الطبقة التي تلي طبقة النووي يخالف الشافعي -رحمه الله- في مسائل من الفقه، وشرحه لـ (منهاج الطالبين) مليء بمثل هذه المخالفات، بل يخالف النووي -رحمه الله- فيما اعتمده من مسائل تارة بنص الشافعي وتارة بقول الأصحاب وتارة بالدليل، بل قد يخرج عن المذاهب الأربعة ويرجح ما هو خلافها، ولم يقل أحد أن تمذهب السبكي في دخن.
§       الإسنوي خالف النووي -رحمهم الله- في معتمد المذهب كثيرا
§       الأذراعي والزركشي رحمهم الله- وهم من متأخري الشافعية يخالف المذهب أحيانًا بالدليل، ويخالفان النووي أحيانا أخرى بنص الشافعي أو جمهور الأصحاب
فهذا التمذهب الذي تظنه تحجرا إنما إشكاله في الصورة الذهنية لا في الواقع، فلسنا نزعم أن المذهب يوجب الالتزام بما يقوله الإمام في كل صغيرة وكبيرة في الفقه، لكن إن خالفت الإمام فلا تزعم اجتهادا لست مؤهلا له.

الأئمة المتبوعين -رحمهم الله-


§       تلت طبقات الصحابة والتابعين وتابعيهم t طبقة الأئمة المتبوعين، وهم لا ينحصرون في أربعة أئمة فقط (أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد)، إنما كانت مذاهب أخرى قد نشأت مقارنة لهذه المذاهب كان الناس يتفقهون عليها ويتناقلونها، بل بعض البلاد كانت جميعها على مذاهب مخصوصة غير هذه الأربعة، منها:
o      مذهب الأوزاعي الذي كان في الأندلس حتى سنة 220ه وفي دمشق حتى سنة 340هــ
o      ومذهب أبي سفيان الثوري الذي تمذهبت به ديار كاملة آنذاك
o      ومذهب ابن جرير الطبري 
o      ومذهب داوود الظاهري
وغيرها.

المحدثون والتمذهب


§       جماعة كثيرون من أهل الحديث تبعوا بعضها، فمنهم من كانت له مشاركة في فقه المذهب، ومنهم من تمذهب بإحدى هذه المذاهب الأربعة ليقيم عبادته وغالب شأنه، فكان المحدثون يهبون عمرهم للحديث، فإذا لجؤوا للفتوى إنما يلجؤون إلى الفقيه، حتى قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ما أقل الفقه في أهل الحديث" مشيرًا إلى صعوبة الجمع بين علمي الحديث والفقه؛ لأن الحديث علم كأنه لا يقبل الشريك، فكان أحمد وابن جرير الطبري وسفيان الثوري والأوزاعي -رحمهم الله- ممن جمع بينهما، وهم قليل في العلماء.
§       المحدث علي بن الميديني -رحمه الله- كان ممن يتبع الإمام أحمد 0رحمه الله- في الفروع، فكانت إذا عرضت له نازلة أخذ رأي المذهب، وكما يقول "أحمد بن حنبل حجة بيني وبين الله"، ويقول: "لا أبالي إذا أفتاني أحمد بمسألة كيف كانت"، والمحدث أبو عوانة الإسفراييني صاحب (مسند أبي عوانة) كان ممن يتفقه على مذهب الشافعي -رحمهم الله-، وهو أول من أدخل مذهب الشافعي إلى بلدته إسفرايين، والمحدث حسن بن سفيان كان يفتي على وفق مذهب أبي ثور -رحمهم الله-، والمحدث أبو الحسن بن حذلم الذي تمذهب بمذهب الأوزاعي -رحمهم الله- وأفتى تبعًا له، والمحدث المعافى بن زكريا أو الفرج النهرواني  الذي تمذهب بمذهب ابن جرير الطبري -رحمهم الله- حتى أسماه الذهبي "الفقيه الجريري"، هكذا المحدثون.
§       تركيزنا على المحدثين الكبار يأتي من زعم بعضهم من أن أهل الحديث ما كانوا يتمذهبون بمذاهب الأئمة وإنما يتفقهون على الراجح، وهذا ليس بصواب، وفي تراجم المحدثين وسيرهم وتاريخهم لا تجد فيها أنه "كان يتفقه على وفق الدليل"، أو "على الراجح"، أو أنه لم يتفقه على مذهب مطلقًا، لأنه يعارض أبجديات العلوم، بل تجد أنه "كان يتفقه على مذهب" فلان، فكان المحدثون يتمذهبون بمذاهب الأئمة الأربعة أو المذاهب المنتشرة المدونة المعلومة آنذاك -رحمهم الله-.

التمذهب والاجتهاد

§       إذا أردنا الوصول لما وصل إليه هؤلاء الأكابر فإننا نسلك طريقهم، فلما أرادوا دراسة الفقه درسوه على مذهب.
§       ما يسبب الإشكال في هذا الصدد أن بعض الناس لا يفرق بين منهجية التفقه ومنهجية التصنيف ومنهجية الفتوى؛ فإذا وجد أحدهم أن عالمًا صنف ورجح وفق نظره في الدليل أو وجد عالمًا أفتي وفق نظره في الدليل ظن أنه شاهدًا لمسالة التفقه على الراجح.
§       من أمثلة ذلك: 
o      أننا حين نطالع (الأوسط) لابن المنذر نجد أنه يرجح وفق نظره في الدليل -وإن عد في الشافعية-، فقد عده الشافعية في كتب طبقاتهم ممن لا يتقيد بالمذهب، وهذه تتعلق بمنهجية التصنيف لا منهجية التفقه، لكن ابن المنذر لما أراد أن يتفقه إنما تفقه على مذهب الشافعي، وقرأ كتبه على الربيع بن سليمان المرادي، وذكر ذلك في كتاب الطهارة من الكتاب الأوسط، فنجده لم يترك التمذهب خشية التعصب أو بهدف الدراسة وفق الدليل، وإنما تفقه على وفق مذهب ثم صارت له دربة في الشريعة وبلغ مرتبة من النظر أهلته للاجتهاد المطلق حتى صنف الأوسط ورجح بين الفقهاء على وفق نظره، وبتمذهبه لزم المصنع الذي يخرج العلماء والمجتهدين المطلقين، وإذا تأملت في أحوال أي مجتهد مطلق فإنك تجد أنه إنما خرج من رحاب المذاهب.
o      شيخ الإسلام ابن تيمية عندما أراد أن يصنع من نفسه فقيهًا كبيرًا إنما تفقه على مذهب، فدرس مذهب الحنابلة ودرّسه وأفتى على وفقه لفترة طويلة كما ذكر الذهبي، ثم لما بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق كان يفتي على وفق نظره في الدليل، لكنه لم يقل أنه يشتغل بالفقه دون مذهب إذ لن يُصنع منه فقيه على هذا النحو، إنما يصنع الفقيه في رحاب المذهب.
§       فما من فقيه حصّل مرتبة الاجتهاد المطلق إلا وهو خارج من رحاب المذاهب -سواء من المذاهب الأربعة أو غيرها- إلا إن كان من قبيل النادر الذي لا يقاس عليه.

صناعة عقل الفقيه في ظل المذهب


§       المذهب في بنيته العلمية من أصول وفروع وقواعد وفروق وجدل فقهي واصطلاح وفقه عبارة، كل ذلك يشكل عقلية الفقه، فالمتون المتوسطة في المذهب إنما تبلغ عشرين ألف مسألة، فتخيل عقلية طالب العلم التي مرت على عشرين ألف صورة وحكم وتعليل. 
§       ويمكننا تشبيه هذا العقل بالمكينة التي مرت آلاف المرات على الفرع الفقهي، وبعد ذلك ستدور مباشرة على الفروع المشابهة وسيلحق النظير بنظيره وسيقيس المخرّج على المنصوص وسيجتهد على وفق نظره إذا بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق، ولكن إذا كان خالي الوفاض من الفروع الفقهية فكيف يجتهد؟ وكيف تنشأ عنده ملكة النظر؟ 
فأهل الصناعات إذا أرادوا تعليم أولادهم صنعة معينة اذهبوهم لمكان العمل وظلوا ينظرون فقط إلى المعلمين مدة سنتين تقريبًا مع مناولتهم بعض الأشياء وتأدية بعض المهام الصغيرة، بعد ذلك يتخزن في ذاكرتهم ما نظروه من الأستاذ، فإذا مارسوا ذلك أخذوا يتدربون لفترة طويلة حتى يديروا العمل كله. 
وهكذا يُصنع في الفقيه، فإذا جلس في حضرة المتن الفقهي يتدبر ما صنع الفقيه في الفرع وكيف أعمل نظره ويدمن النظر فيها؛ فيتأمل الصورة والحكم والتعليل وأحوال المجتهد في هذه الفروع، حتى تنشأ هذه الملكة عند المتلقي عبر تخزين التعاليل والأحكام والتخاريج، وبذا تتكون ملكة التعليل، فهذه التعاليل ترجع لأصول مضبوطة بها. 
§       ولو أن الفرد ذهب لإحدى الكتب التي لا تتقيد بتعاليل لها أصول وورد أن رأيا ما "على الراجح" فإلى أين ترجع لمعرفة أصل هذا الفرع؟ وهل صاحب هذا الرأي له كتاب في الأصول أو القواعد الفقهية أو الفروق الفقهية؟ الغالب أنه ليس له ذلك.
§       وهذه العلوم -الأصول أو القواعد الفقهية أو الفروق الفقهية وغيرها- هي التي إذا اجتمع بعضها إلى بعض شكلت عقل الفقيه وملكة النظر لديه، حتى يصل للحد الذي قال فيه الفقيه الغزالي -رحمه الله-: "إذا لم يتكلم الفقيه في المسـألة التي لا يعرف فيها الأقاويل ككلامه في المسألة التي يعرف فيها الأقاويل فليس بفقيه" فهذه كرتبة المجتهد المطلق؛ لأنه يستطيع أن يتكلم فيما لا يعرف فيه الأقاويل ككلامه فيما يعرف فيه الأقاويل، وليس الفقه يظهر إذا قال أحدهم "اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: الأول والثاني والثالث، واستدل الأولون ...، والراجح قول فلان لقوة أدلته وسلامتها من المعارض الصحيح" ففي هذه الحالة يكون مجرد ناقل عن الأئمة السابقين، ويظهر هذا سعة اطلاعه، أما الفقه فيظهر إذا تكلم في المسألة السابقة بأن يرجّح بما لم يُسبق إليه من التعاليل نتيجة لدربته في النظر، أو في المسألة اللازمة التي لا يَعرف فيها الأقاويل السابقة، وهذا قانون الملكة في جميع العلوم.

إشكاليات تحول بين طالب العلم والتمذهب




أحيانًا تكون الإشكاليات في نظرة طالب العلم للتمذهب:
1.      أن يسجن طالب العلم نفسه في تصحيحات إمام معين وتضعيفاته ثم يحاكم مذهبًا من المذاهب -أو كلها- بها:
ونحن لا نثرب على طالب العلم أن يَلزم تقييد إمام معين في التصحيح والتضعيف؛ لأنه لا سبيل للجمع بين التخصص في الفقه والحديث، فلا بد أن يكون متخصصًا في أحد العلمين ومقلدًا في الآخر، ولكن نثرب على طالب العلم أن يحاكم المذاهب بمحض هذه التصحيحات والتضعيفات.
§       مثال: ما يقع من بعض طلبة اليوم من أنهم يأتون لأحد كتب المذاهب وينظرون لحاشية المحقق ويجدون أنه قال (رواه الترمذي وضعفه فلان) ذاكرًا أحد العلماء سواء قديما أو معاصرًا، ثم يقول الطالب: انظر! لقد استدل بالضعيف، أو يقول أن كتب المذاهب تنتشر فيها الأحاديث الضعيفة.
والسؤال هنا: هذا الحديث ضعيف على مذهب من؟ على مذهب الإمام الذي يقلّده، وقد تكون صحيحة على مذهب غيره، أو أنه غير معتمد في الاستدلال وإنما ذكره المصنف على جهة الاستئناس لا الاعتماد. 
كما يمكن لطالب العلم في هذه الحالة أن يأخذ الحديث ويتتبع كل من صححه وضعفه ولن يجد أن هذا المذهب قد أطبق على ما أُجمع على ضعفه، وإن أطبق على ذلك فإنما يذكره على جهة الاستئناس لا الاعتماد، أو يذكره فيما يجوز الاستدلال بالضعيف فيه.

2.      أن يفرق طالب العلم بين ما يذكر على جهة الاعتماد، وما يذكر على جهة الاستئناس:
وقد استأنست بعض كتب المذاهب بما لا يجوز الاستئناس به من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة لضعف البضاعة الحديثية في هذا المصنف لدى الفقيه، وقد قاله أبو دقيق العيد -رحمه الله-، ولكن إذا راجعت محرر المذهب ستجدهم يفرقون بين ما يستدل به وما لا يستدل به، كما قد يكون الدليل المعتمد في الاستدلال دليلًا نظريًا، والدليل المستأنس به دليلًا أثريًا، ولكن معتمدهم هو النظر، والثاني للاستئناس.
وقد يتصور طالب العلم أن ضعف الدليل يدل على ضعف المدلول، ويظن انه حينما يرى الحديث ضعيفًا يضعف المذهب أو الحكم بذلك، فالحقيقة في هذه الحالة أن المسألة غير ممحضة على الدليل الضعيف أو المتنازع فيه وإنما هي مبنية على أكثر من دليل، ولا يلزم من ضعف الدليل ضعف المدلول، فقد يكون المدلول قويًا عكس الدليل، ولذا وجدت كتب الخلافيات وكثُرت المؤلفات وذلك ليس لكثرة المسائل فقط وإنما كثرة الاستنباطات. 

3.     أن يفرق طالب العلم بين ما يصح الاستدلال بالضعيف فيه، وما لا يصح ذلك:
الشافعية -على سبيل المثال- يجوزون الاستدلال بالضعيف في فضائل الأعمال بشرائط مخصوصة، فلا بد عند محاكتهم محاكمتهم على أصلهم.

4.     الغفلة عن احتمالات الدلالة:
يقرأ طالب العلم أحيانًا في المدون المذهبي حكمًا معينًا، ثم يقرأ في مصنف من مصنفات السنة أو كتاب فقهي آخر -سواء أكان مذهبي أو غير مذهبي- دليلًا يشكل على هذا الحكم، فيقع في نفسه أن هذا المذهب إنما خالف الدليل، وهنا لا بد أن نفرق بين صورتين من صور الإشكال على المذهب بالدليل:
1)      قد يشكل المرء على المذهب بدليل لعمق نظر ودقة تأمل فيه: والأئمة لهم إشكالات كثيرة على الأدلة في المذاهب، فإما أن بشكل الإمام بدليل على مذهبه الذي ينتمي إليه، أو أن يشكل بدليل على مذهب المخالف، فالإشكال بالدليل في أصله ليس ممنوعًا، بل هو من محاورة الفقهاء المشتهرة، ومما جرت به المناقشات والمناظرات بين الفقهاء -رحمهم الله-، بل يشكل الأئمة -رحمهم الله- على مذاهبهم كالنووي والسبكي والزركشي والأذرعي وغيرهم.
2)      قد يشكل المرء بالدليل على المذهب لضعف ملكته الأصولية وقلة دربته في الفروع الفقهية: والإشكال هنا أن يشكل الفرد على المذهب بالدليل لقلة نظر في الدليل وغفلة عن احتمالات الدلالة إلى حد أن يقول طالب العلم: "لو وقف إمامنا على هذا الحديث لوجب أن يقضي الحديث"، رغم أننا لو نقبنا لوجدناه قد وقف عليه ولكنه قد: 
1.  اعتقد ضعفه
2.  أو أوله تأويلًا يخالف فهم ذلك الفرد الذي قد يتعامل مع النص الظاهر على أنه نص مما يجعله يظن مخالفة المذهب للدليل
3.  أو منعه مانع من العمل به كأصول المذهب

ومن أسباب هذا التعامل
1.       غفلة الفرد عن احتمالات هذا الدليل
2.       جهل الفرد بأصول هذا المذهب أو الإمام

تنقسم النصوص لثلاثة أقسام:
1)      نص وهو الذي لا يرد عليه احتمال
2)      ظاهر وهو ما ورد عليه احتمالان أو أكثر ويرجح في أحدها
3)      مجمل وهو ما يتوارد عليه احتمالان أكثر على جهة التساوي فلا ترجح هذا ولا ذاك، 
أما إذا كان الدليل له احتمال واحد صحيح صريح، فهناك حالتان لطالب العلم في التعامل معه:
1)      أن يسيء الظن بالمذهب ويرمي أتباعه بالتعصب للإمام على حساب الدليل.
2)      أن يحسن الظن ويعتذر عن الأئمة أنهم خالفوا الدليل لجهلهم به، وهذا واقع كما حدث من النووي واعتذاره عن الشافعي في مسائل معينة والقرطبي واعتذاره عن مالك في مسائل معينة وغيرهم ممن اعتذروا عن الأئمة، وهنا يجب الانتباه للآتي:
§       التفريق بين الاعتذار عن إمام بأنه خفي عنه الدليل في مسألة معينة وبين طرد هذا الاعتذار على كل ما لم يدرك الفرد وجه مخالفة الإمام فيه
§       من يقوم بالاعتذار هو الملم بـ (1)مرويات و (2)تصانيف و (3)أصول الإمام، لأن فردًا ما قد يعتذر للإمام بشيء ما ثم يجده في أحد مصنفاته أو يجد أنه لا يقول به لأنه يخالف أصوله، فقد يتبين من الإلمام بما طرحه الإمام معرفة أن الخلاف مع الأصل لا مع التفريعات، وبذا يكون النقاش حول الأصل من قبل العلماء الملمين، فلا تعتذر للإمام بما لم يعتذر به عنه أصحابه مما لا يخالف أصله حتى لا تكون قد اعتذرت له بما لا يقول به.

5.     التطبيق الرياضي للقواعد الأصولية:
بعض طلبة العلم المبتدئين يظن أنه بمجرد معرفة القواعد الأصولية والحديثية تمكن من الترجيح، وهذا صحيح بحسب ظنه إذ يتبدى له راجح من مرجوح، ولكن هذا التبدي إنما هو على الفهم السطحي للقواعد الأصولية التي يعرفها، فهناك فرق بين اعتقاد رجحان قول معين بناء على حجة قوية أو على حجة ضعيفة وتطبيق رياضي لقواعد أصول الفقه يطرد من خلاله الأصول على الأدلة، ولذا على طالب العلم تحقيق فهم القاعدة الأصولية وهذا بحد ذاته لا يكفي ليعمل مشرطها على المسائل فالأمر يحتاج لدربة، وكذلك العلم في قواعد الحديث لا يجعلك في مرتبة أبي حاتم الرازي والملكة التي يحملها، أما التعامل الرياضي فيجعلك تظن أن المذاهب تخالف الأدلة وأن مجرد الإيمان بالقاعدة الأصولية يعلمك بالراجح والمرجوح. لكن من تمرس في علم أصول الفقه وامتلك ملكة الأصولي وكانت له دربة في فروع المجتهدين وبلغ في العلم مبلغًا عظيمًا وإن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد المطلق يحصل له نظر في الدليل، لذلك بعض العلماء الذين لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد المطلق كانت لهم تراجيح في بعض المسائل داخل المذهب.

6.     الغفلة عن آثار الصحابة t فيما خالف مألوفه من فتاوى العلماء:
أحيانًا ينشأ الطالب في بيئة علمية معينة يشتهر فيها من الفتاوى الفتوى في مسائل معينة على نحو معين أو بأقوال معينة، فإذا انتقل إلى بيئة أخرى أو سمع علماء آخرين يفتون بخلاف ما ألفه في بيئته العلمية قد ينشأ في نفسه أنهم لا يقضون بالدليل أو يفتون به، أو أن ما حملهم على ذلك التعصب لمذاهب، أو غير ذلك من الاتهامات التي تقع في قلوب بعض طلبة العلم وتجري بها ألسنهم، والغفلة عن آثار الصحابة t تكون سببًا لتعمق هذا الوهم، ولكن في هذه المسائل التي ألف فيها قول معين فلو أنه كان له اطلاع على آثار الصحابة t لكان في نفسه انحباس عن هذه التهمة التي قد ينطلق بها لسانه، فمثلًا إذا وجد أن بعض الصحابة t أفتى بهذا الذي يخالف فتوى شيخه قد تهدأ نفسه ويتوقف عن التهم التي لا تتوقف عند هؤلاء العلماء وإنما كلما من أفتى بقولهم.

ومن علل اشتداد بعض طلبة العلم في قول معين في بعض المسائل والظن أن الرأي الآخر الموجود في أحد المذاهب أو كلها مخالف للدليل:
1)      غفلة عن القاعدة الأصولية
2)      غفلة عن طرائق المجتهدين
3)      غفلة عن المعيار الموضوعي المجرد الذي يحكم فيه بالسواغ من عدمه

7.       الصورة الذهنية المشوهة عن المذاهب:
يتصور بعض طلبة العلم أن أئمة المذاهب إنما هم قوم جامدون على نصوص أئمتهم ومحققيهم لا يخرجون عنها قط، وهذا الظن ليس بصواب.
§       لو ضربنا مثالا بالشافعية سنجد أن الإمام الرافعي والإمام النووي -رحمهم الله- قد أطلق عليهما محققا المذهب لأنهما قد جمعا كل التراث الذي جمعه الأصحاب -رحمهم الله- ثم سبروا كل ذلك على وفق الدليل وبينوا المعتمد من غيره، أما من جاؤوا بعدهم من علماء الشافعية فقد كتبوا فيما طرحه الإمامين آلاف المجلدات وتتبعوا كل جملة فيما كتباه إما بالتصحيح والإقرار أو النقد، فتجد الإسنوي -رحمه الله- صنف كتابا في تعقب الشيخين وسماه (المهمات على الرافعي والروضة)، وعندما أتم كتابه وجد ابن العماد -رحمه الله- أن شيخه الإسنوي قد خالف قانون العلم في بعض المسائل فصنف كتابا في تعقب شيخه أسماه (التعقبات على المهمات)، أما البلقيني -رحمه الله- فقد رأى أن الإسنوي لم يصب في مسائل كثيرة فصنف كتابا سماه (الملمات برد المهمات)، أما الأذرعي فقد تناول كل ذلك -رحمه الله- وصنف كتابا سماه (التوسط والفتح بين التوسط والشرح).
وهذه الكتب ليست بالقليلة، فـ (التوسط والفتح) كتب في 15 مجلدًا، و(خادم الرافعي والروضة) للزركشي في 15 مجلدًا، كما كُتبت حاشية شرح لكتاب للروضة في 30 مجلدًا، وهكذا كل من يصنف كتابًا على الروضة إما أن يقر على النووي أو يتعقبه.
ثم يأتي بعدهم طبقة الجيل التالي ومنهم زكريا الأنصاري والهيتمي والخطيب الشربيني والرملي -رحمهم الله- ينظرون في كل ما كتبه الأصحاب -رحمهم الله.
فالمذاهب فيها حركة نقدية واسعة جدا، وليسوا مجموعة من الأئمة الذين يجمدون على النصوص المروية عن الأئمة المتبعين أو أصحاب الأوجه في المذهب، بل نظروا لكل ذلك في عين النقد سواء كان نقدا مذهبيا أو يتعلق بالدليل، وكانوا يشكلون على المذاهب بالدليل كما فعل النووي مع أقوال الشافعي، وليس معنى ذلك أن يأتي طالب العلم ويشكل إشكالا ساذجا بالدليل.

8.     عدم تفريق طالب العلم بين التصانيف التجريدية والتصانيف الاستدلالية:
فيأتي طالب علم ليقول أنه لم يجد أدلة لمذهب ما وأن كل ما يذكرونه في كتب الفقه اختلف فيه على أوجه عديدة، ويتساءل عن الفائدة من الأدلة هنا، وطالب العلم هنا لا يفرق بين التصنيف التجريدي والاستدلالي، فالفقهاء لهم أغراض في تصانيفهم:
§     بعضهم غرضه أن يجرد أقوال المذهب وأوجهه، وأن يبين المعتمد من الضعيف، وليس غرضه أن يورد الأدلة أصلا، ومن أمثلة ذلك (روضة الطالبين) للنووي -رحمه الله- حيث جرد الأقوال المذهبية وأوجه الأصحاب فيها دون ادلة مطلقة، وهذا مصنف فقه تجريدي
§     في المصنف الاستدلالي يذكر العالم اختلاف الأصحاب -رحمهم الله- ثم يذكر لكل وجه دليله، ثم يبين المعتمد من ذلك كله وفق قاعدة الشافعي أو نصه -والمذهب الشافعي هنا مثالًا-
§     من المصنفات ما يجمع بين التجريد والاستدلال، ولكن يغلب التجريد فيها الاستدلال أو العكس أو يكونا متساويين، وهو مرتبط بالبيئات العلمية واهتمامها بالأدلة

9.       بعض الأقوال التي رويت عن الأئمة المتمذهبين والتي قد يستبشع ظاهرها ويفهم منها التعصب:
وهذه الأقوال التي شنع بها بعض المعاصرين على بعض صور التمذهب أو ذكره في معرض من يذكر المتعصبين من المتمذهبين لم تستبشع إلا في هذا الزمان، فكان العلماء يتداولونها دون استبشاع أو اعتقاد إشكال فيها.
§       من الأمثلة في هذا الصدد قول الكرخي -رحمه الله-: "كل آت أو حديث خالف ما عليه أصحابنا فهو محمول على النسخ أو على التأويل"، وهذه الكلمة قد يستبشع ظاهرها، ولكننا إذا فهمناها في إطار الأصل الذي نتحدث فيه الآن يتبين ألا إشكال فيها، فهو يقصد أنك قد تجد في كتاب الأصحاب -رحمهم الله- بعض النصوص من الكتاب والسنة التي تخالف فروع الأصحاب وما قضوا به، فإذا وجدت ذلك فاعلم أن الأصحاب لا يخالفون الكتاب والسنة إعراضا عنهما، وإنما لمقتضى للمخالفة مما قد يكون خفي على طالب العلم.
§       ومن الأمثلة في التمثيل على التعصب قول القاضي عياض -رحمه الله-:
ومالك المرتضى لا شك أفضلهم 
إمام دار الهدى والوحي والسنن
فبعض المعاصرين يذكرون هذه الكلمة كمثال على التعصب، مع أن كلامه ليس فيه إشكال وإنما هو المفاضلة بين مالك وغيره، ولا زال العلماء يفاضلون ببن السابقين من غير نكير، فالإمام الشافعي له مناظرات شهيرة مع محمد بن الحسن يفاضل فيها بين أبي حنيفة ومالك -رحمهم الله- حتى نجده يقول: "أنشدك الله، من أعلم بالقرآن صاحبنا أو صاحبكم؟ فيقول بن الحسن:: صاحبكم، ...إلخ" ولا يقول أحد أن الإمام إذا فاضل بين إمامين وفضل أحدهما على الآخر يكون ذلك تعصبًا، كمفاضلة الشافعي بين مالك والليث -رحمهم الله- كذلك.
§       ومن الأمثلة التي يحملها البعض على التعصب قول:
أنا شافعي ما حييت وإن أمت
فوصيتي للناس أن يتشفعوا
وهذا ليس فيه تعصب، وإنما هو رجل -إن جردنا الكلمة من سياقها التاريخي- يوصي الناس بمذهب الشافعية، وربما قيل ذلك في بيئة معينة وسياق معين، فلا زال الناس يوصون بالمذاهب التي يرون صحتها.
§       ومن الأمثلة التي يحملها البعض على التعصب قول الحصكفي:
فلعنة ربي أعداد رمل
على من رد قول أبي حنيفة
وللإنصاف قد يستبشع ظاهر هذا البيت لأنه مجمل لا يرى مراده، لكن أيضا ينبغي استصحاب هذا الأصل وهو حمل كلام العلماء على ما يحمل عليه كلام العقلاء، فيستبعد أن يكون في هذا البيت يلعن العلماء والأئمة الذين ردوا قول أبي حنيفة وبذا يشمل اللعن ثلاثة أرباع الأمة، ومن ذاك ما فسر به ابن العابدين -رحمه الله- هذا البيت وحمله له على من رد كلام أبي حنيفة محتقرًا له وكان قول أبي حنيفة موافقًا للحق عند الله I.
فينبغي عند النظر لكلام العلماء حمل كلامهم على وفق كلام من يبجل كلام الله I ورسوله r، فلسنا أحرص على الاتباع من هؤلاء الأئمة الكبار، ولا أحب لكتاب الله  I وسنة رسوله r منهم، فهم لا يخالفون اتباع كتاب الله  I وسنة رسوله r إلا لمقتضى معين كوجود نص مخصص في السنة أو اعتقاده بالنسخ أو غيره، وكذلك حمل كلامهم على المحامل الحسنة.
كما أنه من الخطأ الظن أن من تمذهب تعصب، فالأقوال المسرودة في الدلالة على التعصب في المتمذهبة -مع أنها ليس فيها تعصبًا- فإننا نقول لا يلزم من التمذهب التعصب، فالتعصب إنما هو من قبيل البغي الذي يقع في النفوس الإنسانية ولا ارتباط له بالمذهبية من عدمها، فقد يكون الفرد غير متمذهب ويكون متعصبًا عبر مقاتلته على الرأس الذي يعتقد أو شدته في مسائل الخلاف.

نحن لا ننفي وجود التعصب في المذاهب، ولكنه ليس بظاهرة عامة في المذاهب الفقهية، إنما يقع من بعض الأتباع الذين لا يعتد بكلامهم أو أفعالهم، وليس التعصب سببه التمذهب، وإن وقع من الكبار فهو من جهة النادر.

حكم التمذهب

وهي من المسائل التي تجدون جوابها في الكتب، وفي حكم التمذهب لا بد من التفريق بين: العمل، والفتوى، والقضاء:

التمذهب في العمل


العلماء اختلفوا هل يجب على العامي التزام مذهب إمام معين أو لا يجب عليه ذلك؟
§       منهم من ذهب إلى أن ذلك واجب على العامي، وكأنه النظر إلى حفظ العامي من تتبع الرخص، فلو أطلق القول والاستفتاء له فسيأخذ الأهون من كل مذهب. 
§       الذي اختاره النووي -رحمه الله- أن العامي لا يجب عليه أن يتمذهب بمذهب إمام معين، بل يستفتي من شاء وتيسر له من المجتهدين؛ لأن الصحابة t لم يلزموا العامي بمذهب معين، ولذلك لم يوجب النووي وغيره التمذهب على العامي
فالتمذهب ليس واجب ديني حسب اختيار النووي، وواجب ديني على أشهر الأقوال كما في مذهب الشافعي، ولكنه واجب صناعي، فلا يمكن أن يصنع فقيه إلا بالتمذهب.

التمذهب في الفتوى


g إشكال: إذا كان الفرد متصدرًا للإفتاء فهل يجوز له مخالفة المذهب في مسائل؟
هذا إشكال في أذهان بعض المتمذهبة الذين يتصورون أن الحق في عدم مخالفة مذهب الإمام قط، وهذا إنما هو تأثر بالفوضى الفقهية المعاصرة التي ترى إلزام الناس، وهذا لا يجوز أن يُجعل علامة على التمذهب الصحيح، وما نص عليه الشيخ بن حجر -رحمه الله- أن مخالفة المذهب في مسائل جائز بشرائط مخصوصة، وذلك في قوله: "نعم يسوغ له الإفتاء بمذهبه وخلاف مذهبه إذا عرف ما يفتي به على وجهه وأضافه إلى الإمام القائل به، لأن الإفتاء في العصر المتأخرة إنما سبيله النقل والرواية لانقطاع الاجتهاد بسائر مراتبه من منذ أزمنة" (فتاوى ابن حجر، 6\378)، وقبل قوله السبكي -رحمه الله-، ومن ضوابط الإفتاء بخلاف المذهب التي تحمي من الإشكالات: (1:27:53)
1.       ألا يدعي اجتهادًا ليس بمتأهل له، حتى لو كان عدوله عن مذهب مقلده لدليل، فالإفتاء بخلاف مذهبه لا يكون لنظر في الدليل وإنما لنظر في الدليل يتحصل لمن له دربة في الأصول وملكة أصولية، وهذا ما نص عليه التقي السبكي -رحمه الله-
2.       ألا يلفق في فتواه حقيقة مركبة لا يقول بها الإمامان إذا عدل عن مذهبه لمذهب آخر
3.       أن يضيف القول المفتى به إلى قائله لا أن يبدي أنه من عنده
4.       أن يكون عالمًا بالمذهب الذي يفتي به على وجهه حتى لا ينزل القول على غير محله، وإلا لا يجوز له الإفتاء وأن يقلد المستفتي مذهبه
5.       ألا يكون المفتى به مما لا يسوغ فيه الخلاف كالشاذ من الأقوال، لأن هذا مما ينقض به القضاء وتبطل به الفتوى
6.       ألا يكون متتبعا للرخص، وإلا سينحل قيد التكليف من أعناق المكلفين

التمذهب في القضاء


ويقال فيه أنه إذا ولي قاض على وفق إمام معين فلا يجوز أن يعدل عن راجح هذا المذهب وإلا ترتب على ذلك مفاسد كثيرة، بل عدوله عن مذهبه مما ينقض فيه القضاء.