Friday, September 29, 2017

تلخيص محاضرة مفهوم العدل في التصور الإسلامي

قدمها م.عبدالله العجيري



لتحميل نسخة PDF من الملخص: https://goo.gl/WWUzQ5 



عناصر الموضوع:
  • أولًا: دلالات أهمية موضوع العدل في التصور الإسلامي
  • ثانيًا: مفهوم العدل
  • ثالثًا: العدل في البحث العقدي
  • رابعًا: اتجاهات تحقيق العدل في البحث الفلسفي
  • خامسًا: العدل في التصور الإسلامي



"إذا تعمق الإنسان في نظرته للعدل سيجد أنها من القيم المركزية إن لم تكن هي القيمة المركزية المسيطرة على طبيعة المنظومة التشريعية".





أولًا: دلالات أهمية موضوع العدل في التصور الإسلامي

- سيكتشف المتأمل في طبيعة الشريعة من خلال معطيات الوحي الصريحة أن سبب إنزال الوحي إنما كان لإقامة العدل بين الناس:

·       قال -تعالى-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)؛ فأنزل الله -تعالى- الكتب بالبينات لإقامة العدل بين الناس، فمن لم يقتنع بالبينات فأنزل الله -تعالى- الحديد ليردعه للانحياز لقيم العدل.

·       قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- :"إن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان؛ فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخصَّ طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بيَّن سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له". الطرق الحكمية، صـ 19

·       قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: "العدل جماع الدين والحق والخير كله". الفتاوى، الصلاة، جـ 22

·       قال الإمام المعلمي اليماني -رحمه الله-: "المقصود من شرع الأحكام تطبيق العدل".

·       أتى الدين في جملته لإقامة العدل، وبالتالي يستطيع الإنسان إيجاد علاقة بين أي منظومة تشريعية إسلامية سواء كانت عقدية أو فقهية بقاعدة العدل، فعندما يتأمل الإنسان في طبيعة نظم التشريع على وجه التفصيل سيجد أن قيمه العدل تتوغل داخل إطارها، وتدخل في تفاصيلها، فلا بد أن يراعي الإنسان هذه القيمة حتى يصيب حكم الله-تعالى-.

o      على سبيل المثال، نظرة سريعة للمدونة الفقهية تكشف هذه القيمة فيما يتعلق بالسياسة، وأنظمة الحكم، والولاية، والقضاء، والشهادة، والكتابة، والعشرة الزوجية، ومعاملة الأبناء، والمعاملات التجارية، والكيل والميزان، والأنساب، والإصلاح بين الناس.

o      ينطبق ذلك حتى على القضايا الفكرية، والاختيارات الفقهية، وطلب العلم الشرعي، ومحاكمة الأفراد والجماعات والتراث، وغيرها من المعطيات.

- تكثر النصوص الشرعية التي تداولت مفردة (العدل)، وتدوير النصوص دليل على مركزيتها، والعكس صحيح، وهناك نمطين فيما يتعلق بالعدل في التصور الشرعي:

1.     أن يتم تدويلها باستخدام مفردة (العدل) أو مرادفاتها كـ (القسط)، (الوسط)، (السواء)، (الكيل والميزان)، وغيرها.

o      مثال: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان)، (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى)، وغيرها.

2.     أن يتم تدويلها عبر سياق النص بشكل غير مباشر، ولذا فالاقتصار على البحث عن المفردات يشكل تقصيرا هائلا في معرفة حجم حضور قيمة العدل في القرآن الكريم.

o      مثال: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)، (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)، وغيرها.

- العدل قيمة معيارية تعين على محاكمة الأقوال، والأفعال، والتصرفات، والعقائد حسب الفلسفة الأخلاقية للدين:

·       قال ابن تيمية -رحمه الله-: "أن جماع الحسنات العدل وجماع السيئات الظلم وهذا أصل جامع عظيم" الفتاوى، توحيد الألوهية، جـ1، صـ 86، فأي قضية تصادف أن تكون عدلًا تدخل في إطار الحسنات، والعكس صحيح، وبالتالي يمكن فرز الحسنات والسيئات بناء على معطى العدل.

·       قال ابن تيمية -رحمه الله-: "هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني فإنه وإن تعدى حدود الله في بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل وأجعله مؤتما بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكما فيما اختلفوا فيه". الفتاوى، العقيدة، جـ3، صـ245.

·       قال المعلمي اليماني -رحمه الله-: "ينبغي أن توزن أمور الناس بميزان العدل".

·       يعد كتاب Justice لـ Michael J. Sandel -أحد الفلاسفة الأخلاقيين وخاصة في مجال السياسة- (لتحميل الترجمة) في صميم موضوعنا، ونجده يكتب في العنوان "ما الجدير أو الصحيح أن يُعمل به؟"؛ فلكي يتوصل الإنسان لما يجب أن يُفعل وما لا يُفعل عليه أن يحاكمه في ضوء قيمة العدل المعيارية.

·       بعض الامتيازات الموجودة في قيمة العدل -على خلاف كثير من القيم الأخلاقية الأخرى-: صفة الإطلاق، والعمومية، وعدم وجود التقييد أو الاستثناء، وهذا من أسباب جعله قيمة معيارية؛ فعند مقارنتها بقيمة مركزية أخرى مثل الصدق نجد أن هناك استثناءات لها يحل فيها الكذب حسب النصوص، بينما لا يصح الظلم في أي حال من الأحوال، ومثلها قيم الحق والحكمة.

·       قال ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال. والظلم محرم مطلقا، لا يباح قط بحال". منهاج السنة، جـ5، صـ126

·       مركزية قيمة العدل ومعياريتها تحتم ألا يتم الاكتفاء بالتذكير بها عبر الوعظ، وخصوصا أن الفلسفة الأخلاقية إجمالا -حسب ما يعتقد م.العجيري- هي فلسفة في محاولة تحرير مفهوم العدل وتفاصيله؛ وفي مجال أصغر نلاحظ أن الفلسفة السياسية تسعى لاستكشاف كنه العدل وحقيقته وأماراته وعلاماته وكيفية تطبيقاته في واقع الحياة.

- ارتباط قيمة العدل بقيمة الحق، فالعدل أحد تجليات الحق وفروعه الأخلاقية، ولا شك أن هذا يبين مدى أهميتها إذ أن الحق قيمة ذات أهمية كبيرة في التصور الإسلامي:

·       من الأدعية التي تجلي مركزية الحق في الدين الإسلامي دعاء الرسول -عليه الصلاة والسلام-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يتهجد، قال: اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، لك ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت ملك السموات والأرض، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت أو لا إله غيرك". صحيح البخاري، كتاب التهجد، جـ1، صـ377، حديث1069 ، فهنا يورد النبي -عليه الصلاة والسلام- أنماط الحق المختلفة.

·       قال -تعالى-: (والله يقضي بالحق).

- ارتهان مستقبل الأمم بمدى التزامها بقيمة العدل:

·       ورد في الحديث: عَنْ جَابِرٍ , قَالَ : لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ , قَالَ : " أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ " , قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ , بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ , تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ , فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ , فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا , ثُمَّ دَفَعَهَا , فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا , فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا , فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ , الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ , فَقَالَتْ : سَوْفَ تَعْلَمُ , يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ , وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ , وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ , فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ , عِنْدَهُ غَدًا , قَالَ : يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صَدَقَتْ صَدَقَتْ , كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ ". سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، حديث4008، حسنه الشيخ الألباني

·       في حديث آخر: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلَّا قَضَيْتَنِي فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا وَيْحَكَ تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ قَالَ إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرُنَا فَنَقْضِيَكِ فَقَالَتْ نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَقْرَضَتْهُ فَقَضَى الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ فَقَالَ أَوْفَيْتَ أَوْفَى اللَّهُ لَكَ فَقَالَ أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ". سنن ابن ماجه، كتاب الصدقات، حديث2426، صححه الألباني

·       قال ابن خلدون -رحمه الله- في المقدمة: "الظّلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النّوع"، كما عقد فصلا بعنوان "في أن الظلم مؤذن بخراب العمران" أطال فيه ببيان فلسفة الظلم وتأثيره.

·       قال ابن تيمية -رحمه الله- وهو أحد الشخصيات التي احتفت كثيرا بقيمة العدل: "وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم: أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم; ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة; ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام". الفتاوى، الفقه، الجهاد، جـ28، صـ 146

·       قال ابن تيمية -رحمه الله- في إشارة لأهمية إقامة العدل في أي تجمع بشري: "فلا صلاح لأهل الأرض في شيء من أمورهم إلا به ولا يستطيع أحد أن يعيش في العالم مع خروجه عن جميع أنواعه بل لا بد من دخوله في شيء من أنواع العدل حتى قطاع الطريق لا بد لهم فيما بينهم من قانون يتفقون عليه ولو أراد واحد منهم أن يأخذ المال كله لم يمكنوه وأظلم الناس وأقدرهم لا يمكنه فعل كل ما يريد بل لا بد من أعوان يريد أرضاءهم ومن أعداء يخاف تسلطهم ففي قلبه رغبة ورهبة تلجئه إلى أن يلتزم من العدل الذي أمر الله تعالى به ما لا يريده". جامع الرسائل، رسالة في قنوت الأشياء كلها لله، صـ26

- الارتباك في تحرير المضامين الداخلية للعدل رغم أنها قضية متفق على أهميتها دون نزاع بين الشرائع والشعوب والفطر السليمة، لكن الإشكالية هي في التفاصيل الداخلية لها فيما يتعلق بتجلياتها وصورها وتطبيقاتها في أرص الواقع، وهذه النقطة هي السبب الأساسي في طرح الموضوع ألا وهو تشكيل نظرية في التصور الإسلامي تمكن الإنسان من إدراك كيف تتفرع التفصيلات في ظل هذه القيمة:

·       قال ابن القيم -رحمه الله-: "العقل يدرك حسن العدل وأما كون هذا الفعل المعين عدلا أو ظلما فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد وكذلك يعجز عن إدراك حسن كل فعل وقبح وان تأتي الشرائع بتفصيل ذلك وتبينه وما أدركه العقل الصريح من ذلك أتت الشرائع بتقريره وما كان حسنا في وقت قبيحا في وقت ولم يهتد العقل لوقت حسنه من وقت قبحه أتت الشرائع بالأمر به في وقت حسنه وبالنهي عنه في وقت قبحه". مفتاح دار السعادة، جـ2، صـ117 

·       من المقدمات الجيدة سلسلة مترجمة لمحاضرات بعنوان Justice لـ Michael J. Sandel هــــــــنــــــــا

o      ذلل بعض المفاهيم الفلسفية المعقدة باستخدام الحالات والقصص الواقعية في كتابه وسلسلة محاضراته حتى تصل لنطاق أوسع، كما كان يناقشها حتى يبين تباينات المدارس في تناولها.

·        قال ابن تيمية -رحمه الله- في بيان أن تباينات الناس ليست في شرف العدل وإنما في مضامينه الداخلية: "فمن العدل فيها ما هو ظاهر يعرفه كل أحد بعقله كوجوب تسليم الثمن على المشتري وتسليم المبيع على البائع للمشتري وتحريم تطفيف المكيال والميزان ووجوب الصدق والبيان وتحريم الكذب والخيانة والغش وأن جزاء القرض الوفاء والحمد. ومنه ما هو خفي جاءت به الشرائع أو شريعتنا - أهل الإسلام - فإن عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل والنهي عن الظلم: دقه وجله؛ مثل أكل المال بالباطل. وجنسه من الربا والميسر". الفتاوى، الفقه، الجهاد، جـ28، صـ386

·       الاستغناء عن الشريعة بالكلية يؤدي للوقوع في الاضطراب الطبيعي الذي وقع بين الناس من أجل تحرير ما هو العدل في هذه الحالة المخصوصة.

·       قال ابن تيمية -رحمه الله- حول أهمية تحرير مضامين العدل: "وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، بل الإنسان المنفرد لا بدّ له من فعل وترك فإن الإنسان همّام حارث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء حارث وهمام)، وهو معنى قولهم: متحرك بالإرادة، فإذا كان له إرادة هو متحرك بها، فلا بد أن يعرف ما يريده هل هو نافع له أو ضار؟ وهل يصلحه أو يفسده؟ وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم، كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم، وبعضه يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم، وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم، وهدايتهم إياهم" التدمرية، جـ1، صـ213-214، أي أن البشر عاجزين عن العيش دو عدل، وأحد أوجه العجز عن العيش دون عدل أن الإنسان مضطر للإقدام أو الإحجام واتخاذ قرار في ذلك تحت ضوء قيمة العدل، وفي هذا يحتاج للشريعة من أجل استكمال تفاصيل العدل وقياس المصلحة والمفسدة.

⁜ ⁜ ⁜ ⁜ ⁜




ثانيًا: مفهوم العدل

- تعريف العدل:

·       لغة: "ما قام في النفوس أَنه مُسْتقيم، وهو ضِدُّ الجَوْر". لسان العرب  

o      يورد الشيخ محمد دراز في كتابه الديــــــــن نقدًا لكون المعاجم تفسير الكلمات بضدها وإشكاليات ذلك

·       إجمالًا: إعطاء كل ذي حق حقه، أو وضع الأمور في مواضعها

o      تعريفه مقارب للحكمة لكونها إحدى أدوات استكشاف قيمة العدل

o      عكس الظلم الذي يعرف بأنه وضع الشيء في غير موضعه

- مرادفات كلمة العدل:

تصميم زهر أحمد (@Zhr_ah1) (الرابط: https://goo.gl/H3rDMC)



1.     القِسط: "وهو من المصادر الموصوف بها كعَدْل، يقال: مِيزانٌ قِسْط، ومِيزانانِ قسط، ومَوازِينُ قِسْطٌ. وقوله تعالى: ونضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ؛ أَي ذواتِ القِسْط. وقال تعالى: وزِنُوا بالقِسْطاس المستقيم؛ يقال: هو أَقْوَمُ المَوازِين، وقال بعضهم: هو الشَّاهِينُ، ويقال: قُسْطاسٌ وقِسْطاسٌ. والإِقساطُ والقِسْطُ: العَدْلُ" لسان العرب

o      أصل الكلمة: "قيل: هو معرب من الرومية مركب من كلمتين قسط، أي عدل، وطاس وهو كفة الميزان، وفي صحيح البخاري وقال مجاهد: القسطاس: العدل بالرومية، ولعل كلمة قسط اختصار لقسطاس؛ لأن غالب الكلمات الرومية تنتهي بحرف السين، وأصله في الرومية مضموم الحرف الأول، وإنما غيره العرب بالكسر على وجه الجواز" تفسير التحرير والتنوير، سورة الإسراء، ونلاحظ تقاربها مع كلمة justice.

o      الفرق بين القسط والعدل: "أن القسط هو العدل البين الظاهر ومنه سمي المكيال قسطا والميزان قسطا لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهرا وقد يكون من العدل ما يخفى ولهذا قلنا أن القسط هو النصيب الذي بينت وجوهه وتقسط القوم الشيء تقاسموا بالقسط" معجم الفروق اللغوية، جـ1، صـ428، فالقسط قسم من أقسام العدل؛ فالعدل نوعان: ظاهر وخفي، ومرادف ظاهره هو القسط.

2.      الوسط: ويأتي بمعنى العدل كما في قوله -تعالى-: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) "أي: عدلا خيارا" تفسير السعدي، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها، قال الطبري -رحمه الله-: "وأما التأويل فإنه جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الخيار لأن الخيار من الناس عدولهم".

3.     الحق: وهو من أسماء الله -تعالى-، ومن أسماء القرآن الكريم، وهو "الثابت الذي لا يسوغ إنكاره"، والحكم المطابق للواقع، والصادق، والمحق، ضد الباطل والكاذب. معجم الفروق اللغوية، جـ1، صـ193.

o      الفرق بين الحق والعدل: قيمة الحق أرفع درجة من العدل؛ فالقيمة التي تدل على مطابقة العلم للواقع هي الصدق، بينما مطابقة العمل للواقع الحق هو العدل (وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلًا) أي صدقا في الأقوال وعدلًا في الأعمال.

o      أحد تجليات الحق في تعريفه "الحكم المطابق للواقع" يكمن في العدل؛ وذلك لأنه المنظومة التي تضبط لنا صدقية مطابقة العمل للواقع.

4.     الإنصاف: فيقال رجل منصف، وهو العدل، ويقال "انتصف منه أي استوفى منه حقه كاملا" المعجم الإسلامي،

o      الفرق بين الإنصاف والعدل: ويورد أبو هلال العسكري في معجم الفروق اللغوية:" أن الانصاف إعطاء النصف، والعدل يكون في ذلك وفي غيره ألا ترى أن السارق إذا قطع قيل إنه عدل عليه ولا يقال إنه أنصف، وأصل الانصاف أن تعطيه نصف الشئ وتأخذ نصفه من غير زيادة ولا نقصان، وربما قيل أطلب منك النصف كما يقال أطلب منك الانصاف ثم استعمل في غير ذلك مما ذكرناه، ويقال أنصف الشئ إذا بلغ نصف نفسه، ونصف غيره إذا بلغ نصفه". جـ1، صـ80

5.     السواء: وهو العدل الوسط، ولذا يقال "استوى الشيء أي اعتدل". لسان العرب

- إشكاليات مصطلحية:

اشتراك المفردات يؤدي لبعض الإشكاليات التي تنعكس على الواقع، مثلًا:

1.      العدل والمساواة: استنادا على ترادف العدل مع الوسط جعل بعضهم (المساواة) إحدى القيم المركزية في الإسلام، في حين أن القيمة الحاكمة هي العدل وليست المساواة؛ فالمساواة لا تلازم العدل وليس شرطا أن يكون العدل مساواة، والقانون الغربي كما يقول البروفسور لويس ميو يهتم بالمساواة بينما يهتم الإسلام بتحقيق العدالة، ولذا فمن القواعد الأساسية معرفة أن الشريعة لا تساوي بين المختلفات، ولا تغاير بين المتماثلات؛ فالعدل يسوي بين المتماثلين عبر المساواة إذا كانت تحقق قيمة العدل، ويفارق المساواة حين وجود ما يخلق حالة التفرقة بينهما ليحقق قيمة العدل؛ فالعدل هو المعيار في ذلك، وكما قال ابن تيمية -رحمه الله-: "بل التسوية بين المتماثلين والتفضيل بين المختلفين هو من العدل والحكم الحسن الذي يوصف به الرب سبحانه وتعالى" منهاج السنة، جـ5، صـ107.

o      المساواة الإجمالية: يعامل المسلمون كافة بالمساواة؛ فهم سواء أمام القانون الشرعي دون امتيازات لأحد كقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، كما طبق حد القذف على بعض الصحابة الصالحين، ومن ذلك الخطاب القرآني للذكر والأنثى بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا)، أو "إنما النساء شقائق الرجال".

o      المساواة التشريعية: وضع التشريع ابتداء قد يوافق أو يفارق المساواة لتحقيق العدالة، ومن ذلك قوله تعالى: (وليس الذكر كالأنثى).

2.      العدل والوسطية: قيمة العدل متعالية على مفهوم الوسط؛ فقد لا يكون العدل بالتوسط، وفيه مقالة للشيخ إبراهيم السكران بعنوان (وسطيتان)، وأحد لفتاته أننا لسنا أمام وسطية واحدة وإنما نمطين من أنماطها:

o      أحدهما ممدوح في التصور الإسلامي، وهي الوسطية المطلوبة، إذ تكون بين باطلين يتوسطهما الحق، كقوله -تعالى-: (صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين)، و (ولا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها، وابتغ بين ذلك سبيلا)، و (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما).

o      الآخر مذموم في التصور الإسلامي، وهو الوسطية بين الحق والباطل؛ فإذا لم ينحز للحق فبضرورة الحال سينحاز للباطل، كقوله -تعالى-: (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المنافق كالشاة العائرة بين ربضتين" وذلك لميلانها حسب موازين القوة،

·   في قوله -تعالى-: (وابتغ بين ذلك سبيلا) يمدح الله -تعالى- وسطية ويذم أخرى:

o      المدح: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا)

o      الذم: (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلًا)

⁜ ⁜ ⁜ ⁜ ⁜




ثالثًا: العدل في البحث العقدي

- من أسماء الله -تعالى- العدل، ومن صفاته العدل، وينتفي الظلم منه لكمال عدله، ومنه -تعالى- اكتسب العدل قيمته الأخلاقية؛ فله صفات الكمال -سبحانه-، وعدله محكوم بحكمته وعلمه.

- من المباحث العقدية الأساسية مبحث الأسماء والصفات، ومبحث القضاء والقدر، ويندرج منها الخلافات الكلامية حول التحسين والتقبيح العقلي، ثم محاكمة أفعال الرب -تعالى- بناء على ما يقتضيه العقل تحسينا وتقبيحا، ومنها الجدل بين الأشاعرة والمعتزلة، والذي ألقى بظلاله على صفة العدل:

من السؤالات في طبيعة العدل الإلهي:

·       س: هل الظلم مقدور له -تبارك وتعالى- أم أنه ممتنع عليه لذاته -سبحانه وتعالى- ولا يتعلق بقدرته أصلًا؟ للإجابة على هذا السؤال هناك رؤيتان:

1.      الأشعرية: تنحاز لمقوله أن الظلم ممتنع لذاته عن الله -عز وجل-، فلا تتعلق قدرة الله -تعالى- بالظلم كما لا تتعلق قدرته -تعالى- بخلق إله آخر، أو إفناء نفسه، أو غيره من الإشكاليات، وسبب ذلك أن تعريف الظلم لديهم هو التصرف في ملك الغير، وبالتالي لا يتأتى من الله -تعالى- أن يتصرف في ملك غيره أو الظلم، ينبني على ذلك أن أي تصرف يفعله الله -عز وجل- في ملكه يجب أن يكون عدلًا بالضرورة، فالأمر لا يتعلق بالقدرة لديهم وليس هو محور جدالهم مع المعتزلة.

2.      الاعتزالية: تنطلق من أن تعريف العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، فالظلم هو ألا يعطى صاحب الحق حقه.

·       س: إذا وضع الله -عز وجل- النبي -عليه السلام- في النار وإبليس في الجنة فهل ذلك ظلمًا؟  

o      بناء على التصور الأشعري ليس ظلما لكون الله -تعالى- متصرفًا في ملكه، ومانع وقوع ذلك نص الخبر وليس العقل.

·       س: من منظور إسلامي هل يمكن أن يحكم الله -تعالى- بالظلم؟

o      الظلم -من جهة المقدور- داخل في مقدور الله -عز وجل-، ولذا من المفارقات أن إخراج هذه القدرة منه حتى تصبح قدرة الخلق أتم من قدرته -تبارك وتعالى- لمن يدعي كونه غير مقدور، ولكن يمتنع صدوره منه لكمال ضده لديه -تعالى- وهو العدل، ومثل ذلك -على سبيل المثال- الكذب الذي يستحيل أن يقع منه -جل وعلا- ليس لامتناعه لذاته، وإنما لكمال ضده لديه وهو الصدق، فالقاعدة في مبحث الأسماء والصفات أن كل معنى ينفيه الله -تعالى- عن نفسه إنما ينفيه لكمال ضده.

o      تحريم الله -تعالى- الظلم على نفسه له دلالتان:

1.      أنه مقدور له سبحانه وتعالى

2.      أنه تنزه عن هذا المقدور لكمال عدله

·       س: هل يسوغ أن يتمدح الله -تعالى- بنفي الظلم عن نفسه؟

o      لا يُتمدح إلا بما هو مقدور، وبناء على ذلك فتمدح الله -تعالى بما هو مقدور.

- من المعضلات في المجال الفلسفي الأخلاقي معضلة يوثيفرو:

·       يواجه الإطار الديني الرؤية الإلحادية بعجزها عن إثبات أي قيم متجاوزة للإطار المادي لتركيزها على المادة، وخصوصا أنها ليست إفرازا من إفرازات المادة، بينما تتمكن الرؤية الدينية من إثبات القيم المتجاوزة للمادة لإثبات وجود الله -تعالى-.

·       يورد أفلاطون حوارًا لسقراط مع يوثيفرو يطرحه البعض اليوم لانتزاع هذه الأداة من الإطار الديني، وهو:

هل أراد الله -تعالى- للعدل أن يكون حسنا فكان حسنًا، أم أنه حسن فأراده الله؟

أجاب ثيفرو بالخيار الأول، وهو بذلك انتزع القيمة الموضوعية للخلق في حد ذاته لتصبح نسبية عائدة لإرادة الله، فغير ثيفرو جوابه للخيار الثاني، فتجاوز بذلك إطار الخلق المادي إلى ما بعده إذ جعله منفصل عن الله -تعالى- خارج عنه وبالتالي يتطلب الله -عز وجل- الاتصاف به كما يتطلبه غيره.

[إضافة من الملَخص: بصيغة أخرى كما وجدت في مصادر حول أفلاطون: هل الخير أمر تحبه الآلهة لأنه خيرًا؟ أم أنه خير لأن الآلهة أحبته؟ 1 ، 2، وتم تعديل السؤال مع الزمن ليصبح: هل أمر الله بالأخلاق الحسنة لحسنها؟ أم أنها حسنة لذلك أمر بها الله؟ 3، أجاب ثيفرو بأن حب الآلهة يسبق، فرد سقراط بأن هذا يعني صراع الآلهة فيما تحبه؛ فقد يحب بعضها ما لا يحب الآخر، وبالتالي فهو ليس مقياسًا، فغير يوثيفرو إجابته إلى أن الخير يسبق، فأوضح سقراط أنه بذلك انتزع الرابطة بين الآلهة والخير فلم يعد حب الآلهة له شرطًا في كونه خيرًا]

o      تبين هذه المعضلة أهمية التبرير الأخلاقي لقيمة العدل

o      تكمن المغالطة في هذه النوع من الأسئلة في أن السائل جعل المقابل أمام ثنائية -أو أكثر-، رغم أن الجواب قد يكون خارج هذا التأطير.

o      الجواب هو لا لكلا السؤالين، ويبدأ بإثبات وجود الله -تعالى-، وأنه متصف بالكمالات، ومنها اتصافه بكمال العدل؛ فأصبح الخير خيرًا ليس لإرادة الله له، وإنما لاتصافه به؛ فاتصاف الله -تعالى- بالكمال جعله كمالًا.

·       س: هل أراد الله الاتصاف به؟

واجب له -سبحانه- أن يكون متصف بصفات الكمال

- من القضايا في العقيدة فروع العدل الإلهي، وخلق أفعال العباد، ومشكلة الشر ووجود الله -تعالى-، والجنة والنار، ودوام العذاب الموجود في النار، وهي تفاصيل جديرة بالدراسة والبحث، وهناك كتابين مهمين في ذلك:

1.      كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل للإمام ابن القيم -رحمه الله-

2.      كتاب مشكلة الشر ووجود الله لـ د.سامي عامري

⁜ ⁜ ⁜ ⁜ ⁜

رابعًا: اتجاهات تحقيق العدل في البحث الفلسفي

- تتناول طبيعة المدارس والاتجاهات الفكرية والفلسفية وتبايناتها حيال تحرير تفاصيل مشهد العدل بعد إفرار الكل بأهمية ومركزية هذه القيمة في حياة البشر، ومن أهم المؤلفات في ذلك:

·       كتاب العدالة Justice لـ Michael J. Sandel (لتحميل الترجمة)، ويلقي الضوء على المدارس والفلسفات الغربية في الإجابة على سؤال العدالة بشكل خفيف ولطيف، وأهمية الاطلاع على مختلف المدارس تكمن في فهم أبعادها وتجلياتها في الجدليات المختلفة.

·       وله كتاب آخر بعنوان الليبرالية وحدود العدالة ، وهو أكثر أكاديمية وعلمية كتبه للرد على جون رولز

·       كتاب مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة لويل كيميلشكا، ويتعمق في مفهوم العدالة في المدارس الغربية

·       كتاب الأخلاق الإسلامية وأسسها للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني، وهو في مجلدين، ويعطي مدخل للأخلاق في التصور الإسلامي

·       كتاب دستور الأخلاق في الإسلام للشيخ محمد دراز -رحمه الله-، ويعين على معرفة التصور الإسلامي بشكل متعمق لكونه دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن الكريم

·       كتاب سؤال الأخلاق للمفكر طه عبدالرحمن، وهو ثري فيما يتعلق بالفلسفة الأخلاقية في التصور الإسلامي

·       كتاب العدالة كإنصاف لجون رولز، وهو أحد الشخصيات الأساسية في مفهوم العدالة في الفلسفة الحديثة

·       ولجون رولز كتاب آخر وأكثر أهمية منه وهو نظرية في العدالة

- السؤال الأساسي الذي يطرح داخل البحث الفلسفي في مفهوم العدالة يدور حول ماهية المعيار الذي في ضوئه يتحقق التوزيع العادل للأشياء التي يثمنها ويقيمها المجتمع، وخصوصا في الفضاءات السياسية والاجتماعية وغيرها -كقضايا الثروة والدخل، والحقوق والواجبات، والمناصب والتشريفات، وغيرها-:

·       الإجابة السهلة المجملة والمباشرة التي يتفق عليها الجميع هي بتحقيق بالعدل الذي يتأتى بإعطاء كل ذي حق حقه

·       يندرج من ذلك سؤال إشكالي تتباين فيه الآراء: ما الذي يستحقه الإنسان في هذا الظرف المعين؟ ولماذا استحق الإنسان هذا الحق؟ وإجمالا تنحاز الآراء المتباينة في تحرير مفهوم العدالة إلى ثلاثة محاور أساسية؛ كل منها يمثل مفهوم العدالة حسب تصور أتباعه:

1.     تعظيم الرفاه

2.     احترام الحرية

§       يلاحظ أن العصر الحديث ميالًا نحو هذا المحور، ويتمثل في المدارس اللبرالية التي تحاول المحافظة على الحرية ورفض فرض نموذج أخلاقي معين على الناس، ولكن الإشكال يقع حين مواجهة بعض الانعكاسات الواقعية، مثل: الموقف من الخطابات العنصرية، أو خطابات الكراهية، أو من فرض ضريبة على الأغنياء لإعادة توزيع الثروة، أو التمييز الإيجابي عبر منح امتيازات لفئات معينة، وغيرها من الأمور التي تكشف استحالة عزل الحالة القيمية والأخلاقية من المجتمع، فستظل القيم الأخلاقية مهيمنة، فتخليق حرية مطلقة دون التحاكم لمنظومة قيمية معينة فيه قدر من الإشكالية.

3.     إشاعة الفضيلة

§       يلاحظ عند قراءة الفلسفة الأخلاقية المتقدمة في اليونان والإغريق وصولًا لعصر النهضة والتنوير الأوروبي أنها كانت ميالة لهذا المحور في مختلف فضاءاتها، ويعود السبب لغلبة المزاج الديني آنذاك.

·       تندرج من هذه المحاور ثلاثة مدارس أساسية كل منها منحاز لأحد هذه المحاور:


تصميم زهر أحمد (@Zhr_ah1) (الرابط: https://goo.gl/HZwosg)



1.     المدرسة النفعية أو المنفعية:

§       من أبرز الشخصيات: جيرمي بنثام (1748-1832)، وتلميذه جيمس ميل (1773-1836)، وابن تلميذه جون ستيورات ميل (1806-1873)، وهم من صاغوا رؤية المدرسة

§       فكرة المدرسة: المبدأ الأعظم الذي ينبغي أن يحاكم الرؤية الأخلاقية هو تعظيم الرفاه والسعادة والمنفعة

§       معيار تحقيق المنفعة الدافع للإقدام أو الاحجام عن فعل معين: هو الألم واللذة؛ فكل ما يعظم اللذة فيه منفعة وهو من المحاسن الأخلاقية، وكل ما يخفف الألم يكون مرغوبًا، وبوضع هذا المعيار لم يحتاجوا لأي رؤية متجاوزة في تفسير البنية الأخلاقية -كوجود الله عز وجل-. [وكأن مبدأهم حسب اتباع "أكثر أهل الأرض"]

§       الألم واللذة لا تتحقق باعتبار الأفراد ولكن الجماعة؛ أي أنه أكبر خير لأكثر عدد

§       إشكاليات: بعض الإشكالات الرئيسية:

1.     انتزاع القيمة الأخلاقية عما يعتقد أنه قيمة أخلاقية

2.     ترسية القيمة على قاعدة فلسفية بعيدة عن رؤية متجاوزة مما يؤثر سلبًا حتى على قدسية وكرامة الإنسان لكونها منبثقة من تصورات دينية، وبالتالي يعطي صورة هلامية للذة والمنفعة لكونها بعيدة عن هذه المفاهيم، ويبين عدم تماسك هذه المدرسة في تصورها.

3.     النزعة النتائجية

مثال: يطرح ساندل سؤال مشكل يدور حول كون البيزنطيين سابقا يتلذذون بقتل المسيحيين، وفي هذا منفعة لأكبر عدد من الرومان تبعًا لمعيار النفعية، ولكن إذا نوقشوا بهذا الإشكال فسيسعون لإثبات ألا منفعة في هذا وبالتالي هو غير مبرر أخلاقيا؛ فهم بهذا المعيار يكونوا قد انتزعوا القيمة الأخلاقية عن الفعل القبيح -مثل القتل- وأصبحت قابلة للأخذ والرد، وقد يترتب على هذا إشكاليات أخلاقية مضطردة. [أصبح الفعل ليس قبيحا لذاته، ولكن معيار قبحه يتحدد حسب معيار المنفعة منه، فإذا كان هناك منفعة أصبح مبررًا ومقبولًا بل ومطلوبًا، وهذا يعمق ذلك العمل ويترتب عليه أعمال من نوعه فيضطرد لينبثق منه انحرافات كثيرة عن الجانب الأخلاقي].



2.     المدرسة اللبرالية أو الليبرتارية:

§       من أبرز الشخصيات: جون لوك، وإيمانيول كانط الذي يؤمن بالحرية العقلانية خارج إطار حكم القانون الطبيعي ويرفض الاتجاهين النفعي والقيمي لكونهما لا تحترمان حرية الإنسان فالأولى من منظوره تغذي حرية متوهمة شهوانية من جنس حرية الحيوان تتبع نزعات لم يخترها وبالتالي لا يحققان العدالة، وجون رولز الذي يرى أولوية الحق -ومنه حق الحرية- على الخير -ومنه الفضيلة، وينطلق من: (1) أن بعض الحقوق الفردية أهميتها تجاوز غلبة الخير العام عليها، و (2) أن مبادئ العدالة غير مرهونة في تبريرها أي تصور معين للحياة.

§       فكرة المدرسة: تتبنى أصالة الحرية والملكية، وتعرف الحرية بأنها تغييب العوائق التي تمنع الشخص مما يريد، ويرى كانط أن هذا يتجلى حين يضع الإنسان قانونًا يختاره لنفسه يرى أنه واجبا ثم يلتزم به منطلقا في ذلك من احترام عقله وكرامته لا من الجانب الحيواني لديه، وانبنى على ذلك فكرة "أخلاق الواجب" والتي تجعل أخلاقية الأمر تنبع من كونه واجبا؛ فيكون بذلك انطلق من دافع العمل الأخلاقي -أي كونه واجبا في شعور الفرد- لا من نتيجته -أي كونه يحقق نفعا ولذة-، وللمزيد يمكن الاطلاع على  دستور الأخلاق في الإسلام ، وكتاب العدالة.

§       معيار العدالة: المحافظة على الحرية الفردية واحترامها، فهي لا تتأسس على الحرية وحدها وإنما الحرية والفردانية.

§       على الصعيد السياسي يؤمن اللبراليون بدولة الحد الأدنى في محاولة تحجيم حضور الدولة في حياة الأفراد، فدور الدولة يتركز على المحافظة على السلم الاجتماعي، وتشريع القوانين التي تمضي التعاقدات، والأنظمة، وتحقيق الأمن من التعديات والإيذاء، أما غيره فهو تجاوز فاقد للشرعية.

§       يرى التيار اللبرالي ضرورة الالتزام بـ(لاءات) ثلاثة:

1.     لا للأبوية: فليس للدولة أن تمارس الأبوية على الناس؛ كفرض ربط حزام الأمان، أو لبس الخوذة، أو استصدار الرخص الطبية، أو التأمينات، وغيرها 

2.     لا للتشريعات الأخلاقية: للدولة حق أو دور في إشاعة الفضيلة بين الناس أو فرض منظومات أخلاقية معينة على الناس

3.     لا لإعادة توزيع الثروة: لأن الإنسان حر في التصرف بما يملك، فليس للدولة حق في انتزاع حقه منه بهدف توزيعا على المستحقين

§       إشكاليات:

1.     لا يمكن الاضطراد مع مبدأ الحرية الفردية لنهاية المشوار دون إشكالات، لذا يرفض جون لوك القول بالحرية المطلقة للذات.

2.     لا يمكن الاضطراد مع فكرة "أخلاق الواجب"؛ فعلى سبيل المثال من يحب البذل ويدفعه حبه لممارسته لا يعتبر أخلاقيا حسب معيار كانط؛ لأنه لا ينطلق من شعوره بالواجب وإنما السعادة، وبالتالي يحارب هذا المعيار الفطرة الأخلاقية [ويشرّع لصراعها والصدام مع الطبيعة، وهو الجانب المتطرف الآخر مقابل النفعية ولذتها اللامحدودة]

◄مثال: يجب ضمان حرية التدين وممارسات شعائر التعبد في ظل نظام الدولة تبعا لمعيار المدرسة اللبرالية وذلك احتراما لمبدأ الحرية الذي يعتبر الحرية الدينية نمط من أنماط حرية الإنسان ويسعى للمحافظة عليها ليس لامتيازها وإنما كبقية حريات الإنسان -كحرية تحديد جنسه اجتماعيا حتى لو خالف ذلك جنسه بيولوجيا-، وإشكالية ذلك واقعيا أنه قد تصطدم الحرية الدينية مع المنظومة التشريعية في بلد ما -كمنع ارتداء قلنسوة اليهود في السلك العسكري، أو عدم إمكانية عملهم يوم السبت دينيا رغم أن نظام الدولة قد لا يعتبره إجازة، أو أن يكون تعاطي نوع من المخدرات جزء من دين الهنود الحمر رغم منعه تشريعيا-، مما ينتج عن تصادم بين معيار اللبرالية والتشريع ، وقد يضع النظام استثناءات تبعا لهذه الاعتبارات الدينية، ولكن يؤدي هذا لمنع فئات أخرى من ذات الفعل -كمنع المخدرات على غير أولئك- رغم أنه حرية فردية؛ وسبب هذا الإشكال عدم إعطاء امتياز للحرية الدينية على بقية الحريات، فإذا كانت الحرية الدينية مساوية لغيرها فلِمَ يحق لمتبعي الأديان القيام بها دون غيرهم؟

◄مثال آخر: كونهم يعتبرون حرية التعبير عن الرأي إحدى أنماط الحريات فهم يحترمونها، فمثلا يحترمون المظاهرات العنصرية مالم يصدر منها إيذاء مادي، وإشكالية هذا الأمر عدم الاعتراف الإيذاء المعنوي.

◄مثال على الفرق بين النفعية واللبرالية: النفعية تتبنى السوق الحرة -على سبيل المثال- لأنه يحقق النفع والرفاه، بينما يتبناه اللبراليون لأنه من أنماط تجلي الحرية الإنسانية، ومعنى ذلك أنه حتى لو كانت تلك الممارسة مضرة فلن يعبؤوا بهذه القضية.  

3.     المدرسة الجماعاتية أو القيمية

§       من أبرز الشخصيات: مايكل والزر، والسدير ماكنتاير، ودانيال بيل، وتشارلز تايلور

§       فكرة المدرسة ومعيار عدالتها: هي المدرسة الأقدم، والعدالة تتحقق فيها بفرض قيم الجماعة على الجماعة، فالسيادة لإرادة الأغلبية، والعدالة باتباع قيميهم -وبالتالي اتباع الخير- التي يستقونها من موارد متعددة -ليست دينية فحسب-؛ فبعض رموزهم يرون ضرورة عدم تطلب رؤية كونية حاكمة، وهذا يؤدي لنسبية رؤى الجماعات المختلفة داخلها لعدم وجود منهج ثابت، وبالتالي فمبدأ العدالة لديهم حسب ما أورد أحدهم "مسألة تأويل ثقافي أكثر منه حجاجا فلسفيا" أي أنها مجرد محاولة استكشاف قيم المجتمع وتحليلها دون محاكمة وبهذا تتحقق العدالة [فهو وصفي أكثر منه إلزاميا تقادميا].

§       موقف الدولة هو فرض قيم المجتمع وثقافة الناس بغض النظر عن صحتها

§       لدى الغرب الجدل قائم بين الاتجاه اللبرالي ونظيره الجماعاتي، ويتفق الاتجاهان في الإقرار بأهمية العدالة، وفي عدم تبني رؤية كونية، ويختلفان في موقع الفرد من الجماعة ما بين أن ينحاز الفرد للجماعة أو عدم فرض الجماعة خياراتها على الفرد.

§       إشكاليات: ينقد مايكل ساندل ذلك بقوله أن قيم المجتمع قد لا تكون خيرًا ولذا فقد لا يحقق العدالة؛ فلا بد أن يبرهن ويدلل على كون الخير خيرا وفق نتائجه، ويقترح اسم "الغائية Teleological" لهذا الاتجاه

·       واقعيا قد تنطبق أكثر من مدرسة على ممارسات جهة معينة؛ إذ أنهم لا يحتكمون لتوجه واحد في جميع النطاقات وإنما تتنوع حسب النطاق الذي يتم التعامل معه.

⁜ ⁜ ⁜ ⁜ ⁜




خامسًا: العدل في التصور الإسلامي

- مقدمات:

·       تغيب بلورة التصور الإسلامي كما هو؛ فكل ما يقال هو اجتهادات ذاتية يقع فيها ما فيه إحكام وثبوت وقطعية إلى جانب ما فيه نسبية وتشابه ويحتاج لمحاكمة.

·       من اللافت قلة حضور مفردة ومفهوم العدالة بجلاء في المكتبة الشرعية أو التراثية؛ إذ هي مستبطنة في كثير من الحالات.

·       ضرورة الانطلاق من خصوصيتنا الحضارية وعدم الرضوخ لمعطيات الحضارات الأخرى أو تقمص مشكلاتهم، وهذه إشكالية نجدها في دراساتنا، وناقشها م. العجيري في كتابة ينبوع الغواية الفكرية، ومحاضرة هكذا تألق جيل الصحابة، وغيرها.

- المسألة الأولى: مركزية العدل في التصور الإسلامي:

·       قيمة العدالة في نص الوحي مركزية، وأساسية، وحضورها كبير وكثيف عبر العديد من المصطلحات، ومن الأمثلة:

o      (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتهم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون)، قيل هذه الآية هي أعدل آية في القرآن، وقيل هي آية العدل.

o      (إن الله بأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا)

o      (يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

o      (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وصاكم به لعلكم تذكرون)

o      (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) ويسميها ابن تيمية -رحمه الله- آية العدل.

·       من أنماط إقامة العدل في النص القرآني التحذير من القيمة المضادة، وهي الظلم، وهي من أكثر ما تم التحذير منه إذ أنه ذكر صريحا في القرآن الكريم 293 مرة، ومن ذلك:

o      (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) ...)

·       اهتمام الشريعة بالدقائق فيما يتعلق بالعدل، ومن ذلك:

o      (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) فحتى على مستوى الآداب نلاحظ تجلي العدل، هنا عبر مبادلة التحية بمثلها.

o      يرى ابن القيم -رحمه الله- أن مقتضى العدل يحتم على المسلم أن يرد التحية بمثلها حتى على غير المسلمين، وأن نص (وعليكم) في حال الاشتباه.

o      في سنن ابن ماجه عن بن بريدة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد بين الظل والشمس. وصححه الشيخ الألباني، يرى بعض العلماء أن هذا لإقامة العدل في البدن.

o      في حديث النهي عن لبس نعل واحدة يورد بعض العلماء أن ذلك لإقامة العدل بين الرجلين، وسواء كان هذا مقصود الشارع أو لا فإن وعي العلماء بمركزية العدل تدفعهم للتفكير بهذا المقصد.

- المسألة الثانية: أصالة العدل والظلم في النفس البشرية: 

·       قال ابن القيم -رحمه الله-: "فأثبت في الفطرة حسن العدل والانصاف والصدق والبر والاحسان والوفاء بالعهد". مفتاح دار السعادة، جـ1، صـ281

·       قال ابن تيمية -رحمه الله-: "العدل محمود محبوب باتفاق أهل الأرض ، وهو محبوب في النفوس ، مركوز حبه في القلوب ، تحبه القلوب وتحمده ، وهو من المعروف الذي تعرفه القلوب ، والظلم من المنكر الذي تنكره القلوب فتبغضه وتذمه". منهاج السنة، جـ5، صـ127، فنرى أن ابن القيم وابن تيمية -رحمهم الله- يرون أن العدل قيمة فطرية.

·       أثبتت التجارب العلمية الحديثة مركزية الخير ومحبته في نفوس البشر (يمكن مشاهدة التجربة التي تم الحديث عنها هــنـــا)

·       قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وكذلك خلقه بفطرته يريد العدل والمصلحة إلا لعارض فهو وإن كان ظلومًا جهولاً فذاك في كثير من الأمور". بيان تلبيس الجهمية، جـ2، صـ333

·       قال الله -تعالى-: (إن الإنسان لظلوم كفار)، ويلاحظ أن ظلوما في صيغة مبالغة على وزن فعول

·       قال الله -تعالى-: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا (72)

·       تحدث الشيخ إبراهيم السكران في مآلات الخطاب المدني حول فكرة الأخلاق الإنسانية وإن كانت ممدوحة بإطلاق وما إن كان الأصل فيه الخير أو الشر

·       يتبين لنا أن هناك دلالات على مركزية العدل وأخرى على مركزية الظلم في نفس الإنسان، ولكن الإنسان مفطور على اعتقاد أن العدل قيمة حسنة، رغم أن سلوكياته قد تقع في الظلم بسبب الهوى؛ فالآية توضح أن الإنسان قد يصدر منه الظلم كثيرا لنقصه وعجزه وجهله ولكنه يدرك أنه ظلم خطأ وقبيح، ولذا لا يحب أن يقع عليه ما يفعله في الآخرين؛ فلديه في النظرية العدل وفي السلوك الظلم.

- أسس نظرية العدل في التصور الإسلامي:

1.     التبرير الأخلاقي: فميزة الإسلام أنه يمكّننا من تبرير لماذا يعتبر العدل حسنا بخلاف التصورات الأخرى، وتنبثق من وجود الله -تعالى-؛ فيقول الفرد -مثلا- أن العدل قيمة موضوعية مطلقة، وذلك من خلال تعقله لوجود الله -تعالى- واتصافه بهذا الكمال المطلق، ومن فوائد التبرير الأخلاقي:

o      فائدة انطولوجية: من خلال وجود الله -تعالى- نستطيع أن نثبت أن للعدل قيمة موضوعية مطلقة، فهو يجب على سؤال كيف توصلنا إلى أن ثمة قيمة تسمى قيمة العدل؟ من خلال إدراكنا لوجود الله -عز وجل-.

o      فائدة ابستمولوجية: يرشد الإسلام ويهديك لتفاصيل المنظومة الأخلاقية من خلال الوحي ومرجعية الشريعة.

2.     القاعدة المرجعية: وهي المبادئ والأسس التي يقوم عليها مفهوم العدالة، وهي -بطبيعة الحال- في التصور الإسلامي دين الله -تعالى- المنزل، الوحي كتابا وسنة، ولذا يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله-: "ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقا له بإثبات الشرع ذلك له لا بكونه مستحقا لذلك بحكم الأصل" الموافقات، جـ3، صـ104؛ فينطلق التصور من رؤية أن الله -تعالى- خالق الخلق والمتفرد بالربوبية، ويلزم ذلك تفرده بالخلق والأمر بالتدبير، وبالتالي الذي يمنح الحقوق ويعطي الواجبات هو الله -عز وجل-، والإنسان من فقره أنه لا يمتلك لنفسه حقًا ولا يستطيع أن يفترض على نفسه واجبا من غير خالقه -تبارك وتعالى-، فهو استغراق في مفهوم العبودية، وغنى الله -تعالى- مقابل افتقار العبد له في معرفة ما يجب عليه وما له من حقوق، فالمشرع الأعلى هو الله -تعالى-، وتُدرك تشريعاته من خلال الوحي والرسل، وفي ظل هذه الرؤية تبطل النزعة الإنسانية المستغنية التي تفرض انقطاعا بين البشر وبين الله -عز وجل-، فالإنسان تبعا لذلك متطلب في معرفة تفاصيل العدل، يقول ابن تيمية -رحمه الله-:"فالشرع هو العدل والعدل هو الشرع." الفتاوى، الفقه، القضاء، جـ 35، صـ365 ، وينتج هذا التصور عدة معطيات:

o      أن العدل يمثل قيمة تكليفية، فهو ليس مجرد حق يعطى للإنسان، وإنما هو مكلف شرعا بصيانته ورعايته.

o      إذا كانت قيمة العقل تكليفا فقيمة العدل تعبدية، يرجو العبد بتحقيقها وصيانتها الثواب، ويخشى العقاب المترتب على الظلم.

o      شرعية قيمة العدل ذاتية، فلا تفتقر لإرادة الناس أو خياراتهم لإضفاء الشرعية عليها، بل شرعيتها مكتسبة من الوحي.

·       يذكر هذا بمغالطات مفهوم سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة الذي ينبني على أن الشريعة تحتاج لإرادة البشر كي تطبق في الأرض، وهنا خلط بين شرعية الشريعة وتطبيقها، فإرادة البشر شرط في تطبيق الشريعة لكنها لا تضفي الشرعية عليها، لذا فالتخيير على تطبيق الشريعة لا موقع له من الإعراب بين المسلمين.

·       يذكر أيضا بمعالجة الشيخ فهد العجلان لإشكالية التفريق بين التحريم الشرعي والتجريم القانوني، فالمحرمات الشرعية تحتاج إلى شرعية تُضفى عليها من إرادة البشر لتدخل في حيز التجريم القانوني.

o      انسجام المنظومة التشريعية وموافقة أحكام القياس، فلا تنافر بين قيم الإسلام التي تنسجم لتحقق العدالة، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "الرسول لا يأمر بخلاف العدل ولا يحكم في شيئين متماثلين بحكمين مختلفين ولا يحرم الشيء ويحل نظيره" الفتاوى، الفقه، جـ22ـ صـ332، فالاختلاف في الحكم بين شيئين متماثلين يدل على فساد التصور.

o      موافقة العقل الصحيح لمفهوم العدالة في التصور الإسلامي

o      منظومة التشريعات الإسلامية للعدل موافقة للفطرة

إشكاليات:

o      بعضهم يتصور أن إدراك العدل إسلاميا أمر منفك عن تفاصيل المنظومة التشريعية، فبعضهم يورد مقولة ابن القيم -رحمه الله- "فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان ، فثم شرع الله ودينه" الطرق الحكمية، صـ13 بهدف إيجاد مفارقة بين الشرع والعدل، فيسعى لتحقيق العدل بعيدا عن الشر، مع أنه كما قال ابن تيمية -رحمه الله-: "الكتاب والعدل متلازمان والكتاب هو المبين للشرع ; فالشرع هو العدل والعدل هو الشرع ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع" الفتاوى، الفقه، القضاء، جـ 35، صـ365.

o      بعضهم يرى أن التشريعات التفصيلية لقيمة العدل هي مجرد وسائل لغاية كبرى هي تحقيق العدل، بالتالي قد تتحقق قيمة العدل بوسائل أخرى، وتعكس هذه الرؤية غرورا معرفيا يتوهم من خلالها الفرد بإمكانيته أن يضع وسائل تفضي للعدل الذي أراده الله -عز وجل-، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر ، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر ; فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل ، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم ، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله سبحانه وتعالى ، كسوالف البادية ، وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة" منهاج السنة، الفصل الثاني، صــ 130

o      كيف يكون القانون العام عدلًا؟ يسعى الفرد لتحقيق العدل الممكن؛ إذ أن جزءًا من النقص في هذه الحياة الدنيا هو استحالة تحقيق العدل التام الكامل، فليس الخيار الشرعي أن ينحاز الإنسان لاستبعاد تحقيق العدل وإنما للقاعدة الأصولية (ما لا يدرك كله لا يترك كله)، يقول الشيخ عبدالرحمن المعلمي اليماني -رحمه الله-:

·       "وفوق ذلك [أي فوق المنظومة التشريعية] فإن الرب -عز وجل- يتمم العدل بقضائه وقدره؛ فيستر هذا، ويفضح هذا، ويزيد هذا تتمة ما يستحقه من العقوبة، ويعوض هذا فيما إذا كان الذي ناله من العقوبة أشدَّ مما يستوجبه جرمه، وهكذا، وههنا حقائق ودقائق، ليس هذا موضع بسط ما ندركه فيها".

·       ويقول: "قد قدَّمنا أن القوانين الشرعية يَجْبُر واضعها -سبحانه وتعالى- ما قد ينشأ عنها من خلل، فيقضي ويقدر ما يتم به العدل، وهو -سبحانه- المحيط بكل شيء علمًا وقدرةً (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)".

·       ويقول أيضا: "الحَكَمَ العَدْل تبارك وتعالى يَجْبُر ما يستلزمه القانون العام من خَلَلٍ في بعض الجزئيات بقَدَرِه الذي لا يعجزه علم الحقيقة، ولا تقدير ما يوافق الحكمة، ولذلك صورٌ قد ذكرت بعضها في غير هذا الموضع، والذي يختصُّ بهذا الموضع هو أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد يعلم أنَّ هذا الشيء الذي دلَّت الآية بعمومها على أنَّه حلالٌ، وبيَّنت آيةٌ أُخرى أنّه حرام، يعلم -سبحانه- أنَّ الحِكْمة لا تقتضي تحريم ذلك الشيء على هذا الشخص، فيَسَّره -سبحانه- بقَدَرِه إلى أن يسمع الآية العامَّة ولا يسمع الآية الأخرى، فهو وإن كان مخطئًا بالنَّظر إلى الحكم الشرعيِّ، فهو مصيبٌ بالنَّظر إلى الحكم الذي علم الله -عزَّ وجلَّ- أنَّه أنسب به، ولا يأتي مثل هذا في الكفر"، فمقتضى ذلك إيمان المؤمنين بالشريعة أن واضع الشريعة يكمل بإرادته الكونية القدرية مقومات العدل من شريعته.

3.     العدل بين الإحكام والتشابه: التفاصيل في منظومة العدل قد تكون عرضة لـ: القطعية والظنية، والإحكام والتشابه، والإطلاق والنسبية، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "العدل قد يتنوع بتنوع الشرائع والمناهج، فيكون العدل في كل شرعة بحسبها" منهاج السنة، ج5، صـ128، فالاقتصار في الاعتقاد على أن تفاصيل المنظومة التشريعية الإسلامية هي الحق وحدها قد يتصادم مع الاعتقاد بعدل الشرائع المنزلة قبلها، ولذا فمخالفتها للعدل الإسلامي ينم عن إمكانية تنوع العدل، وعن إمكانية دخول قدر من النسبية فيما يتعلق بمنظومات الشرائع إلا أنها تتفق في الثوابت والأصول والقيم الكبرى، فلا ننطلق من رؤية نسبية فيما هو محكم من هذه الشريعة، ونتطلب رؤية كونية حاكمة على خلاف الرؤى النسبية المطلقة، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "والمقصود أن الحكم بالعدل واجب مطلقا ، في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد ، والحكم بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو عدل خاص ، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها ، والحكم به واجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل من اتبعه ، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر" منهاج السنة، ج5، صـ131، ويقول في معرض تحليل الشرائع الإلهية: "والكتاب الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل وأمته أفضل وشرائع دينه أحسن وموسى جاء بالعدل وعيسى جاء بتكميلها بالفضل وهو - صلى الله عليه وسلم - قد جمع في شريعته بين العدل والفضل" الجواب الصحيح، جـ2، صـ22-23، ويقول: "بل الشرائع ثلاثة : شريعة عدل فقط ، وشريعة فضل فقط ، وشريعة تجمع العدل والفضل ، فتوجب العدل ، وتندب إلى الفضل ، وهذه أكمل الشرائع الثلاث وهي شريعة القرآن الذي جمع فيه بين العدل والفضل . مع أنا لا ننكر أن يكون موسى - عليه السلام - أوجب العدل وندب إلى الفضل ، وكذلك المسيح - أيضا - أوجب العدل وندب إلى الفضل، وأما من يقول : إن المسيح أوجب الفضل وحرم على كل مظلوم أن يقتص من ظالمه ، أو أن موسى لم يندب إلى الإحسان ، فهذا فيه غضاضة بشريعة المرسلين . لكن قد يقال : إن ذكر العدل في التوراة أكثر ، وذكر الفضل في الإنجيل أكثر ، والقرآن جمع بينهما على غاية الكمال" الجواب الصحيح، ج6،صـ58-59، فاستمساكنا بتفاصيل العدل في المنظومة الشرعية لا يعني أننا نؤمن بإطلاقها ومناسبتها لكل ظرف ومكان وزمان؛ فلكل شريعة تفاصيل تتناسب مع سياقها.

o      من ذلك قضية المسائل الخلافية والاجتهاد لتطلب العدل فيها، فحتى في منظومة التشريع الإسلامي قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ  فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ...) فمن إرادة الله -تعالى- حين أنزل الوحي أنزل عدلًا محكما لا يختلف فيه، وأنزل عدلًا تتشابه فيه الأنظار، ليستخرج عبودية الاجتهاد في تطلب هذا النمط من أنماط العدل من نفوس العلماء.

o      من إشكاليات المدارس المذكورة آنفًا سعيها لتشكيل معيار يتم التعامل معه بإطلاق، بينما ترى المنظومة الإسلامية أن الفرد مضطر أحيانا للنسبية، وتتيح المجال للاجتهاد والاختلاف في ظل النظرية دون أن يكون هناك غضاضة على قيمة العدل.

4.     امتيازات الحق على الباطل: نرى في بعض المدارس أعلاه أن خيارات الأكثرية قد تفرض على المجتمع -كما في الجماعاتية-، أما الشريعة ترى أن الامتيازات للحق وليس للباطل، فالإسلام بمنظومته العقدية والعملية ينطلق من كونه حقا وما يخرج عن منظومته باطل، فحكم المجتمع في التصور الإسلامي لا ينطلق من أن القيم نابعة من المجتمع، فكلا الحاكم والمحكوم محكومان بشريعة العدل من عند الله -تبارك وتعالى-، وللحق حقا ليس للباطل على مستوى الدنيا والآخرة، ويمتد هذا الامتياز ليشمل حملة الحق وحملة الباطل؛ فلأهل الحق حقا ليس لأهل الباطل، بل ويمتد للمنظومة التشريعية في أحكامها كما في أحكام المناكحات والعبادات والجنايات والحدود والتوارث والأطعمة والولاية والحضانة والقتال والحريات وغيرها، يقول -تعالى- في أن من مقتضى العدل عدم المساواة بين المؤمن والكافر: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ (22)، ويقول: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)، ويقول: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)، ويقول: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)

o      من الإشكاليات التي تطرح أنه إذا كان لأهل الحق حقا في أن يدوعوا لدينهم، فما المانع أن يعطى أهل الباطل ذات الحق، فإذا كان المقصود القبول بهيمنة الآخر فقد يفرض الواقع نفسه، لكن لا يعني ذلك إضفاء شرعية لهذا الأمر، لذا فلا يُتصور في ظل المنظومة التشريعية الإسلامية أن من العدل أن يعطى أهل الباطل مجالا كمجال أهل الحق.

5.     الهدف المركزي من قيمة العدل: وهو في التصور الإسلامي إقامة الدين والعبودية لله -تعالى-، وتحقيق المصالح ودفع المفاسد -وفي ذلك قدر من النفعية في مفهوم أن ما فيه نفع فقد أتت الشريعة به-، فالله -تعالى- مستغن عن البشر وما أتت الشريعة إلا لتحقيق مصالحهم، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "ما شرعه للعباد هو العدل الذي به صلاح المعاش والمعاد" درء تعارض العقل والنقل، جـ7، صـ343، ولكن يختلف التصور الإسلامي عن النفعية في أن إطارها يتجاوز المنفعة الدنيوية إلى الأخروية؛ فقد تمنع ما يحقق لذة دنيوية بهدف عدم الخسران الأخروي.

6.     الشمولية: الدوائر التي تتحرك فيها قيمة العدل أكثر سعة من دوائر التصورات المادية الدنيوية، فمن الخطأ عند التعامل مع الفلسفة الأخلاقية حصرها على التعاملات بين البشر في حين أنها تتجاوز ذلك للاعتقاد والقول والفعل، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ثمَّ أمره أَن يُخْبِرهُمْ بِأَنَّهُ أَمر بِالْعَدْلِ بَينهم وَهَذَا يعم الْعدْل فِي الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال والآراء والمحاكمات كلهَا" مفتاح دار السعادة، جـ2، صـ58، ومنه التعامل بين العبد وربه، فالعدل يكون في التعامل مع الله -تعالى-، ومع النفس، ومع الخلق، وتحدثت كتب الآداب الشرعية عن ذلك بالتفصيل، ومن أمثلة ذلك قول ابن تيمية -رحمه الله-: "والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط وأعظم القسط عبادة الله وحده لا شريك له ثم العدل على الناس في حقوقهم ثم العدل على النفس" الفتاوى، الآداب والتصوف، جـ10، صـ99، وفي القرآن الكريم قال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ  إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، وقال: (وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ  فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ  يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) عن ابن عباس : ( إن الله يأمر بالعدل ) قال : "شهادة أن لا إله إلا الله" تفسير ابن كثير -رحمه الله-، ففسرها بالعدل مع الله -تعالى-، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "و "العدل" هو الاعتدال والاعتدال هو صلاح القلب كما أن الظلم فساده ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالما لنفسه والظلم خلاف العدل" الفتاوى، الآداب والتصوف، جـ10، صـ97، ويقول: "ومن أعظم العدل العدل في الأمور الدينية فإن العدل في أمر الدنيا من الدماء والأموال كالقصاص والمواريث وإن كان واجبا وتركه ظلم فالعدل في أمر الدين أعظم منه وهو العدل بين شرائع الدين وبين أهله" الفتاوى، الفقه، جـ24، صـ251.

o      الإشكالية هنا أنه رغم أن ابن تيمية -رحمه الله- يقرر أن العدل الديني أولى من الدنيوي، إلا أنه يورد أن الأمة الكافرة تكون منصورة إن كانت عادلة، والأمة الكافرة هنا حصل منها جزء من العدل إلا أنها وقع منها قدر أعظم من الظلم، في حين أن الأمة المسلمة الظالمة قد تكون حققت بعض العدل الديني، إلا أنه يقول: " ولهذا كانت الذنوب ثلاثة أقسام : أحدها : ما فيها ظلم الناس ; كالظلم بأخذ الأموال ومنع الحقوق ; والحسد ونحو ذلك. والثاني : ما فيه ظلم النفس فقط ; كشرب الخمر والزنا ; إذا لم يتعد ضررهما . والثالث : ما يجتمع فيه الأمران ; مثل أن يأخذ المتولي أموال الناس يزني بها ويشرب بها الخمر ; ومثل أن يزني بمن يرفعه على الناس بذلك السبب ويضرهم ; كما يقع ممن يحب بعض النساء والصبيان وقد قال الله تعالى : {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}. وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم : أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم ; ولهذا قيل : إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ; ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة . ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم } فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة وذلك أن العدل نظام كل شيء ; فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة" الفتاوى، الفقه، جـ28، صـ145-146، فالملحظ هنا أن ظلم الخلق عقوبته معجلة في الدنيا، وهذا يحل الإشكال في المسألة، والملحظ الثاني أن العدل بين الناس هو من العدل المتعلق بشأن الدنيا، فيُتصور أنه يقيم شأن الدنيا، لكن العدل الأعظم لتعلقه بالزمن الأعظم -الآخرة- يقام في الآخرة.

7.     الضمانات المساعدة: عندما قررت الشريعة العدل سدت الذرائع المفضية للظلم، وأتت بالضمانات ليتحقق العدل في الواقع، وهي:

o      ضمانات دنيوية: تتمثل في منظومة التشريعات المتكاملة، ومن ذلك أن الأصل براءة الذمة، وضمان حرية المتهم في مواجهة سلطة الاتهام، وإلقاء العبء كاملا على المدعي، ولا يكلف المتهم بإثبات براءته، وأن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، وأن تكون العقوبة شخصية، وبطلان الإكراه، واستقلالية القضاء وحيادية القاضي، وعدم قضائه وهو غضبان، والمساواة بين الجميع الحكم في مجلس القضاء.

o      ضمانات أخروية: محاولة تعزيز قيمة العدل عبر الترغيب والترهيب، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ المُقْسِطِينَ عند الله على مَنَابِرَ من نُورٍ عن يَمينِ الرَّحْمنِ - وكلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وأَهْلِيهمْ وَمَا وَلُوا" أخرجه مسلم، ومن ذلك حث الإسلام على الصبر وكتم الغضب الذي هو أحد سبل تحقيق العدل كما يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "أنّ من اعتادَ الانتقام ولم يَصبِرْ لابُدَّ أن يقعَ في الظلم، فإنّ النفس لا تَقتصِرُ على قدرِ العَدْل الواجب لها، لا علمًا ولا إرادةً، وربما عجزت عن الاقتصار على قدرِ الحقَّ، فإنّ الغضبَ يَخرُجُ بصاحبه إلى حدٍّ لا يَعقِلُ ما يقول ويفعل، فبينما هو مظلوم يَنتظِرُ النَّصْرَ وَالعِز، إذ انقلبَ ظالمًا يَنتظِرُ المقتَ والعقوبةَ." جامع المسائل، جـ1، 173.

o      بين المثالية والواقعية: يقول الله -تعالى-: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)، ويقول: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، فالقاعدة الشرعية هي تكليف الإنسان من القيم الشرعية ما يستطيع الإتيان به، وهذا يحرر الإنسان من التخوف من بعض ما يمكن أن يقع فيه من صور الظلم، وهناك عدة معطيات منها أن جزءا من العجز الذي لا يستطيع الإنسان الإتيان به من العدل هو نقص بشري، ومن ذلك أن التعدد لا يباح إلا في ظل العدل رغم قوله -تعالى-: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ)، فالعدل الأول مقدور عليه فإذا ظن الإنسان العجز عنه فلا يباح له التعدد، بينما لن يتمكن الإنسان من العدل الثاني لقصوره وضعفه، فعن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : "اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" إذ الحاكم مقصوده الحكم بالعدل بحسب الإمكان فحيث تعذر العدل الحقيقى للتعذر أو التعسر في علمه أو عمله كان الواجب ما كان به أشبه وأمثل وهو العدل المقدور" الاستقامة، جـ1، صـ8، وفي مفهوم التعذر يقول: "أما إذا كان الحق قد فات مثل الوطء في النكاح الفاسد والعمل في المؤاجرات والمضاربات والغبن في المبيع : فالقيمة ليست مثلا له، وإنما تجب في بعض المواضع : كالمتلف والمغصوب الذي تعذر مثله ; للضرورة ; إذ ليس هناك شيء يوجد أقرب إلى الحق من القيمة فكان ذلك هو العدل الممكن" الفتاوى، الفقه، جـ29، صـ409، ويقول: "وكثيراً ما يتولى الرجل من المسلمين والتتار قاضياً ،بل إماماً، وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها" الفتاوى، أصول الفقه، جـ19، صـ218.

·       هناك فتوى مشهورة لابن تيمية -رحمه الله- تعبر عن عبقريته وجرأته العلمية، وتوازنات المصالح والمفاسد، واستشعاره لمركزية قيمة العدل، وحسن تطبيقاته في الواقع لها، ويمكن الاطلاع عليها هنا (الفتاوى، باب الغصب، مسألة أخذ مقدار الحق ممن غصب الحق، جـ30، صـ356-360).







روابط أخرى:

- ملخص مكتوب من قبل Hoomaam@ للمحاضرة: https://goo.gl/r6HoCR

- ملخص مكتوب من قبل الأخت زهر أحمد للمحاضرة: https://goo.gl/unadaE

- ملخص المدرسة النفعية (مشاهد): https://goo.gl/rjKSpd

- رابط المحاضرة الأصلية على اليوتيوب: https://youtu.be/aXQ8-kQTGl4

- فهرس موضوعي لفيديو المحاضرة للأخ خالد آل الشيخ


             

2 comments:

  1. This comment has been removed by the author.

    ReplyDelete
  2. شكرا لك على هذا المجهود الجميل
    تقبل الله منك

    ReplyDelete