Monday, March 12, 2018

مفهوم التوحيد في القرآن

قدمه: د.عمرو بسيوني

لتحميل التفريغ بصيغة (بي دي أف): http://bit.ly/2DlU1NH 

المحتويات

لا نعنى هنا بالمباحث التي تدرس التوحيد الثبوتي والإثباتي الذي كان عند المتكلمين والمتعلق بالربوبية، ولا بالتوحيد الألوهي الذي هو بمعنى العبادة المحضة -بالمعنى الفني عند الفقهاء-، وإنما سنذكر التوحيد بمعنى الانفعال، وهذا فيه نوع من الألوهية الواضحة، كما سنذكره من جهة فلسفية أعم وهي قضية التفاعل بين مفهوم التوحيد ومجالات الحياة المختلفة.


موضوعه: التوحيد كما هو معلوم في الدراسات الدينية المحضة الكلامية والفلسفية دائمًا ما يُعنى بالبحث في مسائل الثبوت والإثبات المتعلقة بالتوحيد
لغة: مصدر الفعل وحّد، يوحد، أي جعل الشيء واحدا واتخذه واحدًا
اصطلاحا: تتعدد المدارس الكلامية والفلسفية في دراسة كُنه هذا التوحيد، وصفاته، وآثاره، وما ينبني على ذلك من أحكام أخرى مُكمّلة لبنيان هذه العلوم.
في هذه المحاضرة: التوحيد الذي سنتناوله من وجهة فلسفية هو أعم مجالا وماهية من توحيد الألوهية المعروف في التقسيم الشائع بتعريف: توحيد الله U بأفعال المكلف، وتوحيد القصد والإرادة، فهو -من هذه الجهة- مقصود لنا بمعناه العام لارتباطه بنوع من الفاعلية والتفاعل، ولكنه غير مقصود لنا فيما يتعلق بالمعنى الخاص للعبادة المحضة، وبشكل أدق سنتناول التوحيد القرآني، وأثره، ومفاعيله في الحياة؛ ونُعنى بالكلام عن مفهومه وعلاقته في سائر المجالات الوجودية والأخلاقية والسياسية.
التوحيد القرآني: هو التوحيد الذي عناه الله U في قوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت}، ومعناه الانفعال بالتوحيد، أي أثر هذا التوحيد في إنشاء ثم إتمام ثم حصول الأثر للمنظومة المفاهيمية للمسلم والمكلف عمومًا -خصصنا المسلم لأنه لابد أن ينطلق من هذه المنظومة القيمية والسلوكية باعتبارها حقا هو يؤمن به-، لذلك كتبتُ: "أنه في البدء كان الإيمان ثم كان الكلام" في البدء الذي جاء به الرسول r والذي طبقه الصحابة كان هو الإيمان ثم حصل الكلام ، فكل الذي حدث بعد ذلك هو كلام في التوحيد وحوله.


ربما لسياقات تاريخية أو اجتماعية معينة لم تكن هناك إشكالات حقيقة متعلقة بأثر التوحيد في الحياة، فالمجتمعات القديمة كلها كانت تعيش الدين، يقول المؤرخ القديم بلوتارك : "لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد"، فالدين له سلطة قديمة، وارتبط ارتباطًا هائلاً بالسلطة الزمنية سواء كانت سياسية أو أخلاقية أو حتى بطريكية أو آبائية في النظام الأسري التقليدي، وأكثر الفلاسفة الذين يعتبرون خارجين عن المنظومة التوحيدية بالمعنى القرآني لم يستطيعوا رغم ذلك أن يخرجوا عن هذه المنظومة في السياق الاجتماعي والسياسي؛ فالفارابي -مثلا- حين يتكلم عن المدينة الفاضلة أو حين يتكلم أرسطو في نظرياته السياسية نجد أنهم في نهاية الأمر فلاسفة بالمعنى الحداثي، أي أنهم فلاسفة محافظون للغاية!

لذلك البعض يعتقد أن الفلاسفة والتنويريون والأحرار في الإسلام -ومثل هذه المصطلحات الفرنسية والاستشراقية حول المعتزلة والفلاسفة القدامى- يعتقدون أنهم كانوا ليبراليين مثلًا، وهذا غير صحيح، فالنظام التقليدي الموجود سواء كان نظاما سياسيا سلطويا في الحكم أو نظامًا أخلاقيا مجتمعياً -في دائرة الفلسفة العملية الكلاسيكية القديمة التي تتحدث عن الأخلاق الذاتية وعن تدبير المنزل وتتكلم عن السياسة بالمعنى الاجتماعي- كان محافظًا، ولا ننكر أنه قد وجدت نزعات إباحية أو انحلالية لكنها: (1) كانت من اتجاهات شائنة مرفوضة من المجتمع ومن هؤلاء الفلاسفة الإسلاميين الكبار، و (2) لم تكن مرتبطة بأكثر من رفض الدين، فلم تكن مرتبطة بنظم فلسفية متعالية أخرى -كما سنذكر بعد قليل فيما يتعلق بالقانون النظامي والسياسي-.   


f    قال I: {۞ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ۚ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)}:
 يقول I {لا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ} فجعل الشرك -الذي هو مضاد لمنظومة التوحيد- شيئاً مُتَّخذا، والاتخاذ من أفعال التصوير والجعل، يعني لا تجعلوا إلهين اثنين، ثم قال I {إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ} وهذا في قوة التعليل، فكأنه يقول: لا تتخذوا إلهين اثنين؛ لأن الذي هو في نفس الأمر إله واحد، و {إِنَّمَا} للحصر والقصر، وهو هنا حقيقي تحقيقي، وأعقب ذلك محل الشاهد الذي أردته في المقابلة بين المنظومة التوحيدية والمنظومة التنديدية الشركية في قوله {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} فربط ذلك بالانفعال الذي هو الرهبة، أو التقوى بمعنى آخر لأنه قال في الآية التي بعدها {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ۚ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ}، وإذا نظرنا في تناسب خاتمتي هاتين الآيتين؛ الأولى قال فيها {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي ارهبوني وحدي، لأنه قدم المعمول على العامل، وفي الثانية قال {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} وهذا فيه حصر من جهة الإسناد بتقديم المفعول ومن جهة اللفظ نفسه، لأن الغيرية تنفي أن يكون غير الله مستحقًا للعبادة .

إذاً المقصود الأساسي من التوحيد في القرآن -وهو المفهوم الذي سننطلق منه في البحوث الأخلاقية والفلسفية - هو الانفعال بذلك التوحيد بحيث يخلص المسلم وجهته للإله الواحد، فيكون مرجعه القيمي والأخلاقي والسياسي -إلى غير ذلك- واحداً؛ فهناك تنوع وثراء تحت هذه المرجعية، لكن المرجعية ينبغي أن تكون واحدة، هذا هو الأساس التوحيدي في جميع الأديان التوحيدية أو الإبراهيمية -كما يسميها فلاسفة الأديان-، فتفعيل التوحيد في جميع مجالات النظر والحياة هو التوحيد القرآني بغرض الوصول إلى الدار الآخرة التي هي المقصود الأعظم من هذه الحياة الدنيا.
f    قال U: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}
هذه الآية أيضاً تؤطر معنى مفهوم التوحيد القرآني الذي نريد أن ننظر من خلاله كمنظار إلى مجالات الحياة المختلفة، وتفسيرها على وجه التحقيق ينصف المنظور الذي نحن نتوخى النظر منه وإليه؛ لأن من المعروف أن الفلاسفة المتكلمين يبحثون في هذه الآية عن الدليل الكلامي على التوحيد الذي يسمونه دليل التمانع، وهو أنه -في صيغته الأعمق والأبعد من الصيغة المتداولة- أنه يستحيل أن يكون فعل واحد تام من فاعلين اثنين تامين؛ فإذاً الفاعل يكون واحداً، وذكر المحققون من أهل العلم -ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية- أن هذا -أي دليل التمانع- وإن كان صحيحاً فليس البحث في صحته وليس هو مراد المتكلم الأول، فيمكن التخلص إليه بنحو التحضير الإشاري ليكون وضعا ثانياً على سبيل القياس والنظائر، لكنه ليس هو مقصود المتكلم ومراده، لأنه وفق منطوق هذا الدليل الذي ذكروه ووفق سياقة البرهان وصورته ونظامه كان ينبغي أن يكون : لو كان فيهما آلهة إلا الله لما وجد الوجود ، لكن قوله {لفسدتا} يعني :السماوات والأرض، دال على أن الذي تبحث فيه الآية أنه إذا تعدد المعبود -الإله- {لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ}أي :آلهة أخرى وهذا تعدد وشرك {لفسدتا} يعني لفسد نظام الكون، هذا النظام منه النظام التكويني ومنه أيضاً النظام الأخلاقي وما تحته من فروع تشتمل جميع أفعال المكلفين الخاصة والعامة أو الاجتماعية -التي هي على هيئة اجتماعية-. [يفهم هذا من سياق الآيات الذي يخاطب المشركين -لا الملحدين-، يقول ابن عاشور: "هي مسوقة لإثبات الوحدانية لا لإثبات وجود الصانع إذ لا نزاع فيه عند المخاطبين، ولا لإثبات انفراده بالخلق إذ لا نزاع فيه كذلك، ولكنها منتظمة على ما يناسب اعتقادهم الباطل لكشف خطئهم وإعلان باطلهم (...) وأما باعتبار ما نحاه المتكلمون من الاستدلال بهذه الآية على إبطال تعدد الآلهة من أصله بالنسبة لإيجاد العالم وسمّوه برهان التمانع، فهو دليل إقناعي كما قال سعد الدين التفتزاني في «شرح النسفية» . وقال في «المقاصد»: «وفي بعضها ضعف لا يخفى»"].

إذًا، هاتانِ الآيتانِ: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} هذا التّوحيد، والآية الأخرى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} أي: لفسدَ النظامُ؛ نظامُ التكوين الذي يقوم عليهِ الكون بأفلاكِه وسماواتِه وأراضيهِ ونحو ذلك، ولفسدَ نظامُ التشريعِ الذي هو شرعةُ الناسِ وأخلاقهم وما يُقيمُ حياتهم حتى يصلوا إلى الله U، يكدحون إليه كدحًا حتى يُلاقوه.


ليس المقصود بالمجالِ الوجودي هنا الأنطولوجي -وهو أحد فروع الفلسفة المعاصرة-، لكنّ المقصود به أصالةً: المعانِي المتعلّقة بالوجودِ في نفسِه، من غير ملاحظةِ أفعالِ المكلّفينَ -كما في الأخلاقي والسياسي اللذان فيهما نوعٌ من المشاركة بين الوجود والموجود-، أي هو المعنى والقيمة التي يضفيها الوجود الإلهي على الوجودِ نفسِه مما هو سوى الله I.

والمسلمِونَ والمحقّونَ منهم يعتقدون أنّ الوجود متعدّدًا وليس واحدًا، لكنّ الوجود الأصلي؛ الوجود الواجب والحقّ من كلّ وجه هو وجود الله I، وما سواه I مخلوقٌ وعالَم -يتضمن هذا عوالم كلّ شيءٍ سواء كان عاقلًا أو غير عاقلٍ، جامدًا أو غير جامدٍ- فكل ما سواه وجودات أخرى أقلُّ منه ثبوتًا وتحقُّقًا وأحقّيَّةً وغِنًى، مفتقرٌ إليهِ وهو الغنيّ عمَّا عداهُ من كلّ وجه U.


التوحيد هو حقيقةٌ موجودةٌ، لذلك كثيرٌ من العلماء والعرفاء و غير هؤلاءِ يقولونَ إنّ الوجود الإلهيّ وجودٌ فطريٌّ ضروريّ -قد يعرُضُ للفطرةِ ما ينقُلها عن هذه الحال و يحتاجُ إلى ما يشبه الأدوية و هذا أمرٌ آخر-، ولأنّ الشيءَ الموجودَ يكفي في التّدليلِ على وجودِه نفسُ وجودِه؛ فلا يُطلبُ -كما يذكر أهل الكلامِ والمنطق- البرهانُ على أشياء، منها: لا يُطلبُ البرهان على الحواس الظاهر منها والباطن، أي إذا كنتَ ترى الشيءَ أو تشعر بالجوع لا يُقالُ أقمِ البرهانَ النظري على أنّك جائع أو أقمِ البرهانَ على أنّ هذا موجود!، هذا يدخل في بحث السفسطة , وقضية إمكانية المعرفة، لكنّ الأصل عند عامّة الناس وأسويائهم أنّ الذي هو موجودٌ نفسُ وجودِهِ دليلٌ عليهِ، لذلك حتّى المتصوّفةُ يقولون: "هو دليلُ كلّ شيء، فكيفَ يكون عليه دليل ؟"
وفي كلّ شيءٍ لهُ آيةٌ                  تدلّ على أنّه واحدُ
فالأساس الوجودي للتوحيد أنّ الله U موجودٌ في نفس الأمر، وهذا يدلّ على الجنايةِ الأخلاقيّة العظيمةِ التي تكون للكافر الذي لا يؤمنُ بالله U، -ولله المثلُ الأعلى- إذا أنت تصوّرتَ أنّك موجودٌ في مكانٍ وهناك من يجحدُ أنّك موجودٌ أصلاً، فمهما أحسنَ ذلك الإنسانُ -سواء في حقّك أو في حقّ من لهم بكَ صلةٌ كأبنائك أو محبّيك- هل يقالُ في النهايةِ أن ذلك الإنسان أفضلُ ممن يعتقد بوجودِك؟ فهذه معضلةٌ أخلاقيّة: كيفَ يعذّب الله U المشركين الذين يحسنُون إلى الناس؟ لأنّهم لا يدركون المعضلة الأخلاقيّة الفادحة في إنكار ما هو موجود، فكيف بإنكار ما هو سبب كلّ وجود؟ الله U موجودٌ في نفس الأمر، ولا يصحّ أي موجود إلا بوجوده - سواءً فلسفيًّا أو علميًّا أو وجدانيًّا -، وهذه هي الحقيقة الأولى التي هي الأساس الوجودي للتوحيد.

بناءً على ذلك إذا كان كلّ ما سوى الله U مفتقرٌ إليهِ إيجادًا وإمدادًا، فهذا يستلزم أنّ كلّ موجودٍ سوى الله U مفتقرٌ في وجوده وفي معناه وفي غايتِه إلى الوجودِ الإلهي، وهذهِ قضيّةٌ عقليّةٌ ضروريّةٌ، فإذا كانَ الشّيءُ علَّةً لشيءٍ -مطلقًا هنا أي في البحث الفلسفي العام- فلا إشكالَ أنّ هذا المعلولَ مرتبطٌ بعلّتِه وجودًا واستمرارًا وغايةً، فوجودُه واستمرارهُ الذي هو المعنى -أي الغائيّة- مرتبطٌ به على جميع هذه المستويات من حيث الوجود، ومن حيث القيمة والمعنى، ومن حيث المصير.

 لذلك -وفقَ هذا التنظير- فالوجودُ الإلهي يجيبُ على الأسئلة الوجوديّة: من أين نحن؟ وإلى أين نصير؟ ولماذا نحن موجودون؟، ويُجيبُ على السؤالِ الأخلاقي: ماذا نفعل في هذا الوجود؟ ما هو معيار الصواب والخطأ؟ ما هو معيار الحق والباطل؟ ما هو معيار الخير والشر؟ ما هو معيار العدل والظلم؟، فالتوحيدُ يجيبُ على هذه الأسئلةِ، وهي إجاباتٌ واضحةٌ ومباشرةٌ وموافقةٌ للفطرةِ ومنطقِ الأشياءِ والعقلِ السّليمِ:

f    من أين نحنُ؟ نحنُ مخلوقونَ، موجودونَ بعد العدمِ، ونحن نرى كلّ لحظةٍ وكلّ دقيقةٍ وكلّ يومٍ أنّ الأشياءَ تُوجد بعد العدمِ، فالإنسان لا يستطيعُ أن يدّعي أنّه قديمٌ أو أنّ غيرهُ قديمٌ -سواءً من الناحية الفطريّة أو من ناحية قياس الأشباه والنظائر أو حتى من الناحيةِ العلميّة-.
فمن أين الإنسان؟ الإنسانُ خلقه الله U.
f    إلى أين يصير الإنسان؟ يصير إلى الله U.
f    لماذا وجد الإنسان؟ ليحقّق غايةَ الله I من وجودِه في ذلك الوجود، وهو عبادته في الدنيا كي يصير إلى التنعّم معه في الآخرة إلى الأبد.

هذا هو التصوّر الدينيّ عمومًا -وليس التصوّر الإسلامي فقط- والتصوّر الإبراهيميّ خصوصًا -لأن هناك أديانًا غير بعثيّةٍ وغير لاهوتيّةٍ أصلاً كالبوذيّة-، إذًا الدّين يقدّم الإجابةَ على الأسئلة الوجوديّة.

هناك منافِسون للدّين يقدّمون إجاباتِ أيضًا على الأسئلة الوجوديّة ومنظوماتٌ مختلفة كالمنظومة المادّيّة التي تتكلّم عن الوجود وأنّ أصلهُ من المادّة ومصيره إلى المادّة وليس له غايةً أصلاً إذا كان هو من المادّة، فهي منظومة إلحاديّة بالضرورة، وفصلِ الكلام أن كلّ منظومةٍ غير التوحيد هي منظومةٌ مادّيّة، وكلّ منظومةٍ إلحاديّة هي منظومةٌ ماديّة، حتّى ما يسمّى بلاهُوت الإلحاد عند بعض الاتجاهات الإلحاديّة هو مجرّد وهمٍ وتخيل، فهو منظومة مادّيّة.

إذًا المنافِسانِ الأساسيّانِ في هذا الموضوع: 
f    الأصلُ هو المفهوم التوحيدي وإجابتُه على الأسئلة الوجوديّة.
f    المفهوم أو السّرديّة المادّيّة الإلحاديّة.


يصحح التوحيد الأساس الابستمولوجي للوجود:

تعريف الابستمولوجيا: علمُ المعرفة أو نظريّة المعرفة. 
موضوعها: تبحثُ في المسائل الأساسية لها كإمكانيّة المعرفة، ووسائلها، وحجّيّتها، وبعض مشكلاته.
نقدها:

f    على مستوى المعرفة: كيفَ يعرّف الإنسانُ الوجود؟ لا يمكنُ تصحيح أيّ معنى للمعرفة إلاّ بالرجوع إلى ثابتٍ وجودي، وهذهِ القضيّة العامّة، وهذا الثّابت الوجودي تتعلّقُ به المعرفة.
f    على مستوى وسائل المعرفة المجردة الّتي تتعلّق بهذا الثّابت الوجودي: قد تدخلها النسبيّة، وهي: (1) العقل بالنّظرِ والبرهان، و (2)الحسّ، سواءً بالحسّ البسيط أو بالتجربةِ والاستقراء -الذي فيه ثغرات تناولها بوبر 1،2، 3-، كلاهما منه ما هو قطعي ومنه ما هو نسبي، لكن نفس الموضوع الذي تتعلّق به المعارف يكونُ موجودًا في نفس الأمر -خلافًا للسفسطة-، والإشكاليّة التي حدثت فيها هي بذرةُ الشك والوسوسة، وبطريقةٍ أو بأخرى إذا أنت تأمّلتَ ستجدُ أن جميع الضلالاتِ في الفكرِ ترجع في النهايةِ إلى الشكّ الذي هو الآن يسمّى بطريقةِ أكثر أناقةٍ (النّسبيّة) أو (النسبويّة) في الاتجاهاتِ الحديثةِ خاصّةً الاتجاهات ما بعد الحداثية. 
** إلى جانب العقل والحس هناك مستوى ثالث مباشر متعلّق بالوجود التوحيدي وهو الوحي بالنسبة للمؤمنين بالوحي.
f    على مستوى حجيتها: السرديّة التوحيديّة مؤثّرةٌ على المستوى الابستمولوجي من الجهتين: من جهةِ إمكانيّة المعرفة، ومن جهةِ حقّيّةِ المعرفة أو ما يمكن أن نسمّيه باللسانِ الأصولِي القديم (حُجِّيَّة المعرفة).

التوحيد في أفكار كانط [وتحولاته الفكرية في هذا الموضوع]:
كانط والمعرفة:

1.      نجد أن كانط -رائد المدرسة النّقديّة ومؤسس الاتجاه المتوسط بين المثاليين والتجريبيين في المعرفة- نقدَ ونقضَ الأدلّة الأساسيّة على الوجود الإلهي في كتابِه (نقد العقل المحض)، وقال إنّها أدلّة ناقصةٌ غير تامّةٍ لا تُفضي ولا تحقّقُ وجودَ هذا الموجود، والفكرةُ الأساسية التي يدور عليها كانط أنّ "الفكرَ لا يُعطي الوُجود"، وهذا هو عصبُ فلسفته؛ فمجرّد أنّك تثبت بالطريقة النظريّة وجودَ شيءٍ لا يستلزمُ أنه موجودٌ في نفس الأمر، ومن ثمّ هذه الأدلّة غير صالحةٍ للتدليل على الوجود الإلهي، لأن الوجود الإلهي ينبغي أن يكون موجودًا في نفس الأمر، وليس مجرّد مبرهَن، ولكي يدلّل على ذلك قدّم في هذه الأطروحةِ ما يسمى بـ"النقائض الأربعة (1،2)" وهي أربعة من البدهيّات دلّل عليها وعلى نقيضِها، مثل: القِدمِ، والحدوث، والعلّةِ، والمعلوليّةِ، ونحو ذلك، ورغم ذلك نجده يقول في مقدّمة كتابه: "أنا نقدتُ الأدلّة اللاهوتيّة الفلسفيّة على الوجود الإلهي كي أحمي الإيمانلأنّنا إذا دلّلنا على الوجود الإلهي بهذه الأدلّة وهي غير تامّة -من وجهةِ نظرِه- فنحنُ نعرّض الإيمانَ للخطر، "ونحن محتاجون للإيمان" كما يقول. 
2.      عاد بعد ذلك وقال أن اللهُ موجود، وأنه لا بدّ أن يكون موجودًا، لكنّ الإله الذي أثبته كانط هو كما يقول: "منظّمٌ معرفيّ"، أي أنّ كانط حقّق ضرورة الوجود الإلهي من باب المعرفة -الابستمولوجيا- من حيث أنه من دونه لا يمكن الوصول إلى إمكانية المعرفة، لأنه لما طرح نظريته في معرفة كيف يعرف الإنسان الأشياء قال أن هناك فرقاً بين العلم بالشيء في حد ذاته -أي حقيقته في نفس الأمر مفهوم الواقع  in act كما يقول الفلاسفة-  فقال لا يستطيع الإنسان أن يعرف الشيء في نفسه في حد ذاته كما هي الترجمة الذائعة، فمعرفة الأشياء في حد ذاتها غير ممكن في نظره، إذاً ما الشيء الذي يمكن أن يعرفه؟ هو المستوى الثاني من المعرفة -وهو اتفق مع التجريبين في هذه النقطة-، وهو أن الإنسان يعرف الأشياء في حدود الظاهرة الممكنة؛ أي الإنسان عنده حدوس مختلفة يتلقى بها هذه المعطيات التي هي حدود الظاهرة في حدود التجربة، أو الظاهرة في حدودها الممكنة، ويكوّن عن هذه الظاهرة صورة، لكن هذه الصورة في حدود التجربة الممكنة فقط وليس في نفس الأمر، أي عندما ينظر إلى  الكوب يأخذ عنه هذه الصورة ويعرفه هذه المعرفة  لكن هذه المعرفة ليست معبرة بالضرورة عن الشيء في نفس الأمر، وهذه المعطيات تدخل للإنسان عبر قوالب في عقله نسميها (ترانسدنتالية 1،2) أو الحواس المتعالية، وتنظم له المعارف لتمكنه من التعرف على الأشياء السببية والزمان والمكان والماهية ...الخ.

لذا يحتار بعض الباحثين في تصنيف كانط؛ هل هو تجريبي لأنه يقول وسيلة المعرفة الأساسية والوحيدة هي الحدوث؟ أو هو مثالي لأنه يقول بنوع من أنواع المعارف القبلية؟ هو لا هذا ولا ذاك، ولكنه بينهما، لأنه يقول إن هناك نوع من الحاسة المتعالية عند الإنسان بمثابة قوالب، لكن ليس هناك معارف قبلية؛ فلا يعرف أي شيء قبل أن يتعاطى معه بالحس، ولذا نجد كانط وسيطًا بين التجريبيين والمثالين.

نقد أفكار كانط:
رغم هذا التأطير لكانط يبقى عنده مكون ريبي، لأنه نفى إمكانية معرفة الشيء في حد ذاته عبر قوله إن الفكر لا يعطي الوجود، ونفى أيضا البرهنة على إثبات وجود الشيء في حد ذاته عبر مفهومه للعلة الحرة، ولذا يَنسب له البعض النزعة السفسطائية، ونَقدُ طرحه:

f    أنه إذا لم توجد معرفة الله فلا نستطيع أن ننطلق في المعرفة؛ لأنه لا يوجد ثابت وجودي تتعلق به هذه المعارف، فقولك إنك لا تستطيع أن تعلم ما هو هذا الشيء في حد ذاته قد يؤدي لادعاء أنه غير موجود، وهذا هو لب السفسطة. 
f    والانتقال من نسبية المعرفة إلى الشك في نفس الوجود هو السفسطة المطلقة التي عند بيرون: "أشك أنني موجود وأشك أنني أشك"، وهي غير السفسطة عند بروتاجوراس الذي لا ينفي وجود الأشياء ولا يتوقف في وجودها، فهو يرى أن الأشياء موجودة لكن النسبية هي في معرفة هذه الأشياء وفق عبارته المشهورة: "الإنسان معيار كل شيء لكن فيه شيء"، لكن بيرون يقول: "إننا نشك في ذات الأشياء أيضًا"، وصولاً لباركلي (1،2) والنظريات المتطرفة. 

فكيف يمكن لكانط أن يتجاوز هذه السفسطة؟ عن طريق الاعتراف بأن الوجود الإلهي هو منظم معرفي ضروري للثبات الوجودي تتعلق فيه معارفنا، ولكننا لا نستطيع إدراك كنهه والوصول إليه، ونحن ندركه في حدود التجربة الممكنة؛ إذًا كان اعتراف كانط بالوجود الإلهي لأسباب براجماتية عملية لا برهانية ولا حقائقية أيضاً، لذلك اختلف الباحثون اختلافًا طويلًا عريضًا حول ما إذا كان كانط مؤمنًا أو ملحدًا، فيعتبره الفلاسفة ملحد لأنه يقول إن الإله مفاهيمي وليس الإله الذي يعبده المؤمنون، وكلٌ له طريقته في الدفاع عن هذه القضية.

وتعتبر فلسفة كانط من أكثر المفاهيم في الفلسفة الحديثة -ليست المعاصرة- أكثر المفاهيم نقديةً، فهو أبو النقدية في الأبستمولوجيا، ووصل في النهاية إلى أن الوجود الإلهي ضروري لتنظيم المعرفة "كمنظم معرفي" كما يقولون رغم أنه نقض الأدلة الكلامية والفلسفية على الوجود الإلهي. 

هذا يرجع إلى ما ذكرناه في الأول أن الله موجود في نفس الأمر؛ فكل وجود يفتقد إليه إيجادًا وإمدادًا، والمعرفة تفتقر إليه بالضرورة؛ لأن جميع الموجودات مفتقرة إلى الله U، فإذا لم تثبت وجود الله I لا تستطيع أن تسند هذه الأشياء إلى وجود ثابت، فقد تكون الأمور الأخرى غير موجودة، إذًا إمكانية المعرفة مرتبطة بالوجود الإلهي لا من منظور الوحي فحسب،

وباختصار، فسواء كان النظر من منطلق عقلي برهاني، أو حسي تجريبي فلا يمكن تحقيق المعرفة كإمكانية إلا بوجود هذا الوجود المتعالي الذي تستند إليه الحقائق والموجودات، وهذا دور السردية التوحيدية في معرفة الوجود من حيث إمكانية المعرفة.

ماذا عن دور هذه المنظومة التوحيدية في حجية المعرفة؟ فبعد المعرفة، ما الذي يضمن لنا أن هذه المعرفة صحيحة؟ الجواب لا يوجد؛ لأنك إذا رجعت أن الذي يثبت ذلك هو العقل فهذا دور، وإذا قلت الذي يثبت الموجود هذا موجود بالحس هذا دور، وإسناد الشيء إلى نفسه دور، وحتى يتحقق الشيء ينبغي أن يسند إلى شيء غيره فيكون مستندا إليه مسنودًا به، وهذا الشيء إذا بحثت سيكون أيضاً مستندا إلى غيره، حتى ينقطع ذلك في الموجود الذي لم يوجده شيء، أي أنه العلة التي ليست معلولة، والواجب الذي ليس بممكن، هذا الوجود المستغني التام الذي قلنا أنه موجود في نفس الأمر ومنه كل الموجودات، هذا الذي يقطع هذه السلسلة ويصحح هذه الحجية للمعارف، هذا من الناحية اللاهوتية والعرفانية؛ وهكذا نكون قد قضينا على النسبية، فإذا تساءلنا هل هذه المعارف التي نراها وهذه الأجرام وهذه الضرورات التي في العقل حقيقة أم كاذبة؟ تكون الإجابة حقيقية لأنها مستندة إلى حقيقي، و(الحق) ذلك من أسماءه I وهو الثابت في نفس الأمر، فعلى سبيل المثال، الشهادة شيء حق يعني ثابت.

ديكارت وحجية العقل البرهاني:
من ناحية أخرى، دلل ديكارت على الوجود الإلهي من منحى أنطولوجي، وعندما أراد أن يتكلم عن ضمانه العقل تساءل: لماذا لا يكون هذا خدعة من العقل؟ قال: الضمانة في ذلك هي الله، لذلك نحن باللسان الفلسفي نقول: الله I هو المصحح للمعارف، وهو المصحح لأداء العقل بالإضافة لحجيّة العقل؛ فالله I هو الذي خلق لنا هذه الحواس والفطر التي يمكن أن تدلنا عليه وجعلها غائية -لو افترضنا عدم وجود الوحي-، ومع الوحي هو دلنا على استعمال هذه الأشياء حتى تقودنا لإعمار الأرض كما يرضيه U، فالضمانة في تصحيح المعارف الانسانية من وجهة النظر الدينية التوحيدية هي الله I، على خلاف أتباع البحث الفلسفي الذين لا يملكون أي معنى يمكن من خلاله تصحيح المعارف، وذكر ديكارت في كتابه كلمه ظريفة حين قال: "الله لا يخدعنا"، وهذا مبرر أخلاقي لحجية العقل البرهاني والحس التجريبي.

قد يعترض البعض على استخدام هذه الطرق التي يتوسل بها إلى الوجود الإلهي قائلًا إنها طرقًا براجماتية من منحى أنه لولا الله U لما كانت هذه المعارف، وحجة بعضهم أنها قد تسهم في سد ثغرات الملحدين بمفاهيم تجعل منها آلهة، وبعضهم الآخر عبثيين يدخلوا في جدل مثل: ما الذي يلزم من عدم وجود الله، عدم إمكانية المعرفة؟ إذًا، لا معرفة، أنه ليس حجة؟ إذن ليست حجة. 

فهل هذه الطرق يصح استعمالها في التدليل وفي التأمل عموما يعني في الوجود الإلهي؟ ولماذا؟
الجواب نعم، لوجهين:

f    لأن هذا الإشكال يتم ويصح على فرض أننا لا نثبت الوجود الإلهي إلا بهذه الطريقة، لكن نحن كمؤمنين نتكلم عن سياق منظومة سردية تامة كاملة فيها مستوى الوجودي، والأخلاقي، والعاطفي، والعقلي، فإذا استعمل هذا في سياق تام كان مزيد تدليل وتتميم وإكمال، فنحن لا ننتظر أن نثبت لكانط وجود الله لأجل أن نصحح المعارف، لأنه في الأصل الله I ثابت عندنا بأنواع كثيرة من المعارف الضرورية والاستدلالات النظرية والوجدانية والنفسية، لكن الذي يزيد هذا البناء اكتمالاً هو أن ترى الله في كل شيء، وأن له في كل شيء آية مثل قول الرجل الأعرابي البسيط، وذلك المعنى له إشارات في القرآن، مثل: {وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ} تكلم فيها أهل التفسير أن له منتهى في كل شيء (1)، {إلى الله المصير} في الآخرة (1)، وأيضاً يشتق منه {إليه المصير} في كل شيء (1)، فكل شيء إذا أوغل في حقيقته وصل إلى الله I، ومن ذلك حديث الترمذي أنه لو أُدلي حبل في بئر لنزل على الله I كما في الحديث؛ فإذا تفطنتَ في أصل الأخلاق فأنت واصل وكادح كدحا فملاقي الله I لا محالة، وإذا تفطنت في أصل القوة، والجمال، والمعرفة، والعلم، والسياسة، والسلطة، والحكم، وغيرها، كلها توصلك إلى الله I.

فالجواب باختصار هو أن هذا ليس توسلًا عمليًا محضًا لإثبات الوجود الإلهي عن طريق سد ثغرة، بل هو تنميط لتلك التوسلات وتسكين لها في مواضعها من المنظومة الكاملة المجودة عندنا حول الوجود الإلهي U.

f    أن هذا التوسل العملي في تصحيح الوجود الإلهي صحيح لا إشكال فيه أيضا، فهو في نفسه منتج بالمعنى المنطقي أو الكلامي؛ لأننا نستدل به بالمناقضة لا الطرد كقولنا: لولا الله لا تصح المعرفة، فالحاصل أن المعرفة موجودة، والأشياء موجودة في نفس الأمر -لا يخالف ذلك إلا السفاسطة الذين يقول عنهم ابن سينا لا يمكن أن يحصل اجتماع إنساني بين السفاسطة، ويقول باقر الصدر عنهم أنه لا يوجد سفسطائي صادق ولا حقيقي، إذ كل الناس تتعامل مع الوجود لأنه موجود-، فإذا لم يكن تصحيح وجود الأشياء إلا بالوجود الإلهي فالعلاقة بين الوجود الإلهي ووجود الأشياء علاقة ملازمة ليس ملء ثغرات، وأغلب -بل كل- شبهات هؤلاء الملاحدة قائمة على مغالطات منطقية -لا بمعنى العلم بالمنطق وإنما بمعنى العقلية-.

باختصار، التوسل العملي -سواء في المعرفة أو التجربة أو الحس- على الوجود الإلهي هو في حقيقة الأمر ليس أكثر من الاستدلال بالنازل على العالي؛ الاستدلال من الأسفل للأعلى، الاستدلال بالأثر على صاحب الأثر أو المؤثر، فإذا كانت المعرفة موجودة فلا يمكن أن تصح المعرفة إلا بالوجود الإلهي؛ إذن الله موجود لأن المعرفة موجودة، وهذا هو وجه المغالطة التي في ذلك الموضوع.

وبهذا نكون تناولنا أثر التوحيد على الابستمولوجيا إيجادًا وتصحيحًا:
f    إيجادًا: أن الله U هو الذي أوجد كل شيء، والمعرفة ليست متعلقة إلا بما أوجده الله U، فهو الذي أوجد العارف والمعروف والمعرفة.
f    تصحيحاً: تصحيح هذه المعارف، سواء من ناحية الوسائل أو الحجية.

الجمال في الوجود له علاقة بالوجود والتوحيد، والوجود الإلهي هو الذي يوجده وهو الذي يدل عليه؛ لأننا نقول إن الوجود الإلهي الكامل والمتعالي هو الذي (1) يصحح الوجود (2) يضفي عليه المعنى.

ذكرنا في النقطة السابقة أن الذي يصحح المعرفة هو الله، وهو أيضا الذي يصحح الجمال، وهذه قضية في غاية الخطورة والدقة لأن فيها كثيراً من الالتباس، قال النبي r: "إن الله جميل يحب الجمال" إذًا "الله جميل" الجمال صفة ذاتية لله U؛ لأنها من الكمال، بل هي من أعلى ما يكون في الكمال الإلهي، والجمال أمر ثابت موجود في نفسه لأنه قال "يحب الجمال"؛ إذًا هناك جمال في نفس الأمر، وبينة ذلك أن الله يحب الجمال، وليس أن الله يحب شيئا ثم يكون هذا الشيء جميلا لأن الله يحبه [معضلة يوثيفرو التي تم تناولها في محاضرة العدل].

مسألة الذاتية في هذه الصفات: 
هذه المسألة فيها إجمالا واشتباها، ويستفاد من الحديث السابق أن هناك جمالا ذاتيًا متحققا في نفس الأمر، فهل الجمال نسبي؟ لا، الجمال ليس نسبيا، وهذه ضلالة، وكل الضلالات التي في المعرفة -وليس الإرادة- ترجع إلى ذلك، ولذلك تم إحياء ذلك في الفلسفة الحديثة والمعاصرة بصورة هستيرية، فكل الفلاسفة المعاصرين فيهم السفسطة -مقل ومستكثر- مما جعلهم يرجعون الجمال للنسبية حتى أصبحت متداولة بين الناس كقولهم: "ما يعجبك لا يعجب غيرك"، لكن هذا ليس معناه أن الجمال نسبي، بل هو موجود في نفس الأمر، لكن النسبية هي في إدراك ذلك الجمال أو (المحل القابل) وهو الذي يوجد اختلاف الرأي في ذلك.

استشكال: ذكرنا في الوجودي والابستمولوجي أن الإيجاد والإمداد من الله U، فما معنى أن الشيء جميل في نفسه؟ وهل له في نفسه تحقق من غير الإيجاد الإلهي والإمداد الإلهي؟  
الجواب: ليس له ذلك، وهذا هو محل الإشكال الذي نفى به كثير من المتكلمين -الأشاعرة على وجه الخصوص- معنى الذاتيات (1،2) -وهي المسألة التي يبحثونها في الأصلين-، وهي قضية الحسن والقبح الذاتيين، هل هناك حسن وقبح في نفس الأشياء أم أنها كلها بمحض الجعل الإلهي -أي إذا قال الله U عن شيء حسن يبقى حسن، وإذا قال عن شيء قبيح فهو قبيح، لكن من حيث هو هو من حيث ماهيته ليس حسنا ولا قبيحا-، الكلام هذا باطل [أي عدم ذاتية حسنه أو قبحه] بدلالة هذا الحديث، فالعلماء الذين يثبتون الحسن والقبح الذاتي بمعنى الإدراك -أي أن هناك أشياء حسنه وقبيحة يمكن للعقل أن يدرك بعضها ولا يلزم هذا ترتب الأثر الشرعي عليه-يستدلون بأدلة مشابهة، مثل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، فهناك فحشاء ومنكر ينهى الله U عنه؛ إذًا هناك جمال ذاتي متحقق.

ما معنى أن الشيء جميل وحسن في نفسه؟ نريد أن نحرر معنى النفسية أو الذاتية التي هي مدرك ومناط الصفة في الشيء:
f    ذاتي: يعني أنه متصف بتلك الصفة بمعزل عن حصول الإدراك؛ سواء أُدرك أم لم يُدرك.
مثال ذلك الدليل؛ إذ يقول الأصوليون والمتكلمون أن الدليل دليل ولو لم يستدل به، فالاستدلال ليس شرطا في الدليل، إنما الدليل هو ما فيه الدلالة بالقوة لا بالفعل، فبما أنه هو دليل وصالح للاستدلال ويدل بصريح النظر فيه على المطلوب الخبري إذًا هو دليل حتى ولو لم يستدل به بالفعل، لكننا نقول إن هذه الدلالة الموضوعة فيه مجعولة من الله U؛ لأنه خالق كل شيء وكل ما سواه مخلوق.

هناك رتبتان من الاستقلال والذاتية والنفسية:

1.      في الشيء لنفسه، أو ذاته، أي في الشيء في نفس الأمر؛ أنه في نفس الأمر توجد فيه تلك الصفة. 
2.      أن تلك الصفة ووجودها فيه مجعولة، لكنها مجعولة على تلك الهيئة من الحسن والجمال؛ ولا يعني هذا أنه من حيث ماهيته لا جمال ولا حسن فيه ومجرد الوصف الإلهي يجعله جميلا، لكن يعني أنه هو مخلوق جميل حسن بقطع النظر عن الإدراك وعن جعلٍ ثانٍ متعلق بالخطاب، فهو أصلًا جميل والله وصفه بالجمال لأنه خلقه جميلاً.

وتحرير ذلك في قوله r: "إن الله جميل يحب الجمال" أنه هو جمال في نفسه من جهة أنه يستحق تلك المحبة لأنه جميل في نفسه، وهذا الجمال الذي فيه ثابت في نفسه من جهة، ومستمَد من جهة أنه خلق جميلاً؛ أي أن مناسبة استمداده الجمال مناسبتُه للجمال الإلهي، والمناسبة أدق من المشابهة فضلًا عن المماثلة، وهذي درجات مختلفة من الانسجام.

لأنه مناسب للجمال الإلهي صار جميلًا في نفسه، والله جامع الكمالات، فكل حسن أو جميل هو مستمِّدٌ ذلك وليس ذاتيًا لأننا لسنا طبائعيين فلا نقول إن الأشياء فيها طبائع بنفسها فحسب بل أن طبائعها مجعولة، ولا منافاة بينهما.

باختصار، هناك جمال في نفس الأمر ومَدرَكُ جماله مناسبته للجمال الإلهي بقدر من النسبية وبوجه من الوجوه وبقدر معين، فالجمال ثابت لذلك الشيء في نفس الأمر، لكنه من الله إيجاداً وإمداداً، ولو تخلف ذلك الإدراك عند الناس في درك هذا الجمال أو تناسب واختلف بين الناس فهذا لا ينفي ثباته واستناده للجمال الإلهي.

وهذا يقال في جميع الذاتيات، وهو حل مسألة الحسن والقبيح العقلي والذاتي؛ فجميع الذاتيات -سواء كانت الحسنى أو الجمال أو غيره-:

1.      لها في نفسها استقلالاً من جهة تميّزها الوجودي عن مدرك الملاحظة والبيان
2.      تلك الذاتية التي فيها لا تنافي افتقارها الإلهي بالنظر إلى نفس وجودها واستمرارها وأن جميع ذلك على وجه المجعولية التي تستفيد التحقق والإبراء من الله U
3.      مناط الجمال فيها مناسبتها للجمال الإلهي، والخلل يكون في الوسائل والإدراك والمحل القابل وليس في نفس الجمال 

إذًا المفهوم التوحيدي حتى في الجمال؛ لأنه يستند إليه الوجود، ويصحح الوجود، ويصحح معنى الوجود، ويصحح جمال الوجود أيضاً.

فإذا نظرنا في هذه المحاور التي كانت تحت الأساس الوجودي للتوحيد؛ وجوده هو نفسه -أي التوحيد-، وأثره على الوجود -سواء في سياق المعرفة أو الجمال- نستطيع أن ندرك أن أثر التوحيد وجودياً يظهر بكفاءة، بل وأكثر من غيره من المنظومات المادية المفتقرة للقيمة والمعنى، وأن هذه السردية التوحيدية هي الجديرة وحدها أن تجيب على أسئلة الوجود: سؤال المصدر، والمصير، وسؤال الغاية أو سؤال المعنى.



الباب والذريعة المحققة الأساسية التي تحارب التوحيد وتضفي عليه الشكوك والشبهات هو النسبية التي تكون في الأخلاق وفي العلمانية.
إشكاليتها: عدم إسناد الموضوعات -سواء كانت حقائق أو سلوك- إلى وجود متعالي غير محدود بالمعنى الإنساني أو غير نسبي. 
مثال: إذا أرجعت الجمال والمعرفة والحكم والسياسة والأخلاق والقانون إلى النسبي -أي الإنسان المحدود-، فاستدليت بهذه النسبوية، فأنت تتخلص من مفهوم الإلهي المتعالي فيها.

تعريفها: هي رؤية كونية، لها تاريخ، وتقدم محتوى تاريخي، وتقدم إجابة على أسئلة وجودية، ويكون لها نظام قيمي يجيب عن أسئلة الغائية والمعنى، ثم ينزل في الأفراد من خلال السلوك الذي هو الأخلاق والقانون سواء بصورة جماعية أو بصورة مؤسسية.

مفهومها وتاريخها: هي اتجاه فكري سيطر على التصورات الغربية لأكثر من قرنين، وبدأت مع كانط كاتب مقالة (ما التنوير؟) التي قال فيها ما معناه أنه يجب أن تفتح عينيك، فليس لأحد أن يأخذك لطريقه؛ لا رجل دين ولا لاهوتي ولا معّلم ولا المجتمع، يجب أن تبصر بعقلك، فالحداثة نتجت عن العقلنة أو تأليه العقل وعبادته، فهو ينقح الوجود، وهو مرحلة الكمال الإنساني -بالنسبة لهم-، وهناك ثالوث تاريخي مر بمراحل ثلاثة: السحر، والدين، والعقل.

ونحن في عصر العقل، وتحدث فيبر عن نزع السحر عن العالم، ويعني بالسحر الدين واللاهوت والشيء المتعالي أو مفهوم القداسة كما يقولون، وأنتج هذا العقل -الذي نتج عن التنوير- الحداثة عبر تنقيح الماضي والبدء في الحاضر من جديد -من نقطة الصفر- دون حقائق قبلية، ونزلت بهذا المفهوم على المجالات متعددة كالإبستمولوجيا والنقد القائم على الشك فيه، والسياسية عبر ذراعها السياسي العلمانية أو اللبرالية، والاقتصاد سواء كان الرأسمالي أو الشيوعية، إذًا سردية الحداثة تختلف عن السردية الدينية.

مفهومها وتاريخها: ترى أن ما يسمى الحق في الاختلاف هو أسمى الحقوق، وأن الأصل هو الاختلاف، أي أن ما بعد الحداثة تقوم على النسبوية المطلقة في كل شيء -كقول نيتشه وماركس "الإيمان خطأ والإلحاد خطأ" أي أن أي موقف جازم يعتبر خطأ-، كما أعلنت تفكك السرديات، وأنه لا يوجد سردية كبرى، وتنطلق من نقطة الفردانية وحق الاختلاف، وإلى جانب نقدها اللاذع للسردية الدينية نجدها نقدت مختلف منظومات السردية الحداثية.

أول وأكبر إرهاصات ما بعد الحداثة هو نِتشة (1901هـ) الذي نقد الحداثة على كل مستوياتها الأخلاقي واللاهوتي والفلسفي والسياسي، وهي نزعة الهدمية النسبية الشكيّة عند كانط.


لا شك أن كلا المنظومتين -الحداثة وما بعد الحداثة- باطلتين ليس فيهما الوجود الإلهي، لكن لا شك أن الحداثة أقرب للحق من ما بعد الحداثة -من باب معرفة خير الشرّين وشرّ الخيرين-؛ لأنك إذا حاكمت منظومة فكرية تنطلق من مرجع ما أمكن البحث معها من خلال مستويين من التفكير:

1.      سؤال المرجع نفسه: أنه صالح لهذا الإرجاع، ويسمى مفهوم الاسترداد الفلسفي. 
2.      سؤال المطابقة للعقل: إمكان إرجاع المنظومة لهذا المرجع.

أمّا ما بعد الحداثة ليس لها مرجع، لذلك مهما كانت المنظومة الحداثية موغلة في الضلال، فإن منظومة ما بعد الحداثة عريقة في الضلال.

كثير من الإسلاميين يستفيدون من أدبيات ما بعد الحداثة في نقد: الدولة، والعلمانية، والاقتصاد الرأسمالي والنيوليبرالي، والديموقراطية، وبعض المفاهيم الأخلاقية، وغيرها من النقود، ولا بأس من الاستفادة من هذه السرديات في النقد، لكن هذا جرّ كثيرين إلى التأثر بنفس المنظومة، وإطلاق هذه المباني السفسطية النسبوية والتزامها في مجالات لا يمكن للمؤمن أن يلتزم بها -سواء في الإبستمولوجيا أو السياسة أو الأخلاق-، فينبغي للإنسان ألا يأكل على موائد غيره، فعندما تستعمل آلة نقدية بمعزل عن سياقها الثقافي والتاريخي فلابد أن تلقى التناقض، فيجب أن تكون في غاية الحذر والوعي عند استعمال هذه الأدوات.


التوحيد هو ذاته أخلاقي، فالله U طيّب في نفسه، ويأمر بالطيّب: {يحلّ لهم الطيبات ويحّرم عليهم الخبائث}، فالله U يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ويحاسب الناس على فعل الطيبات لأنه طيب، وأرسل نبيّه بالحق {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل}:
f    القضية الأولى: ونحن نتكلم من داخل السردية التوحيدية أن الله U وجوده متسم بالأخلاقية، وسبب هذه الأخلاقية من الناحية الفلسفية كماله واستغناؤه، لأن الأصل في كل عدول عن الأخلاق وكل شرّ هو: النقص والافتقار، فإذا فُرض موجود وتحقق موجود كامل في نفسه مستغني عن غيره كان بالضرورة خيّراً، وهذا من باب الإطلاق العام وليس تسميّة. 
f    القضية الثانية: أن وجوده U هو الذي يحقق الأخلاقيّة في الوجود.


اختلف فلاسفة الأخلاق والسياسة خارج السردية التوحيدية فيما يسمى بمفهوم الطبيعة أو الحالة الأصلية للإنسان؛ فهل الإنسان خير بطبعه (مثل ما يقول روسو) أم شرير (مثل ما يقول هوبز في الليفيثان)؟ ولكل منهما حجج في ذلك،

أما المفهوم التوحيدي فنجده أكثر حيادية وواقعية وأحقية من المفهومين كلاهما، فالوحي وصف طبيعة الإنسان من حيث نفسه بوصوف مختلفة:
1.      أنه مفتقر وناقص: فوصفه بأنه: ظلوم، وجهول، وجزوع، وهلوع، وأنه في خسر، هذا من حيث العموم؛ لأنه ليس كاملاً ولا مستغنياً، فإذا لم يكن كاملاً ولا مستغنياً فهو ناقص ومفتقر، فيكون فيه كل هذا السلوك من حيث نفسه -بقطع النظر عن الوجود الإلهي-. 
2.      أنه مستعد لقبول الحق: فرغم نقصه وافتقاره، إلا أن الله U خلق الإنسان مُهيأً لقبول الحق، وهذا ما يسمى بالفطرة، فالمولود يولد على الفطرة، وليس فيه مانع أصلي يمنعه من قبول الحق، لكن قد يعرض له ذلك المانع بطرق مختلفة.

ومن ثمّ فاللاأخلاقية متأصلة فيه لأنه ناقص، ومن ذلك نفسه الأمّارة بالسوء، لأنها ناقصة وغير مستغنية، فلا هي كاملة فلا تطلب شيئاً ولا هي مستغنية فتكتفي بنفسها في تحقيق مراداتها، فيقع منها الظلم على نفسها وعلى غيرها لتكمل النقص ولتستغني من الافتقار. 

3.      أن الانسان الذي هو مهيئ و مستعد لقبول الحق وفيه الخير والفضائل إذا اهتدى بالإيمان فإنه يكون قد اتصل بالمدد الذي فيه كل خير و منه كل خير و به يكون الانسان خيّراً، إذًا التوحيد كما ذكرنا هو الأصل الثابت الذي يرجع إليه كل شيء في المعرفة والجمال والأخلاق ، فإذا نظرنا إلى الإنسان من حيث نفسه -بقطع النظر عن الإمداد الإلهي - فهو ظلوم جهول لأنه مفتقر وناقص، وإذا نظرنا من جهة إمكان قبوله الحق فهو يمكن أن يقبل الحق وليس عنده مانع أصلي من قبوله، وهذا يختلف عن نظرة أن الانسان شرير بطبعه التي تدّعي أن الإنسان له من الموانع الأصلية ما تمنعه من قبول الحق.

إذا اتصل الإنسان الذي هديناه النجدين-وهما الخير والشر، وهذا أصل الفطرة- ومنحناه حرية الإرادة -لأنها هي الأصل في البحث الأخلاقي، أي إمكانية الاختيار بين الخير و الشر- فإذا اختار الخير يكون قد اتصل بالوجود الإلهي الخيّر ومن ثمّ يكون إنساناً صالحاً يرقى في الدرجات إلى أن يكون أفضل من الملائكة، وإن لم يلتزم ذلك وكان هو محل الشرور و الأرجاس -كما يقول ابن القيم- والظلمات وتتهاوى عليه الشياطين كالبيوت الخربة لأنه انقطع عن المدد الإلهي فيكون  هو الظلوم الجهول وهو الإنسان الذي في أسفل السافلين، وهذا واضح في القرآن لقوله U: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أي إنسان، والمفسرون  لهم كلام طويل في هذه الآيات حول من هو الظلوم الجهول، ومن الهلوع، ومن الذي يُعرض بجنبه، ومن الذي هو في خسر، وبعضهم يقول هو الكافر  والكلام هذا غير صحيح فليس هو قول عامة السلف وليس هو التحقيق في الآيات لذلك قال U: {إلاّ الذين آمنوا} فهذا هو الاستثناء المتّصل يعني لا فائدة من أن يكون استثناءً منفصلًا و هو من نفس الجنس، فهذا الجنس (الإنسان) في خسر من حيث هو هو، والنظر في ماهيته هو {فِي خُسْرٍ، إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات  فإن ترك الاتصال بخالقه يكون ظلوماً جهولاً بالنظر إلى نفسه، و إن لم فيكون في أعلى الدرجات، إذًا هذا من حيث مفهوم الأخلاقية الوضع الطبيعي للإنسان.

في المنظومة التوحيدية مصدر الإلزام الاخلاقي هو الله U عبر الوحي، وذكرنا أن الأخلاق لا توجد إلاّ مع حرية الاختيار وهي الإرادة الحرّة  free well، فلابد أن تكون هناك إرادة حرة حتى يكون الإنسان أخلاقيًّا، وإلا فإن المُجبر لا أثر لتصرفاته؛ فلو صلى مجبرًا كأنه لم يصلّ، وإذا شرب خمراً مجبراً فكأنه لم يشرب، فهل الأول أخلاقي لأنه صلى والآخر غير أخلاقي لأنه شرب الخمر؟ الجواب أن كليهما لا يوصفان لا بالأخلاقية ولا باللاأخلاقية. 

أما عند الفلاسفة خارج السردية التوحيدية فاختلفوا اختلافاً طويلاً في مصدر الإلزام؛ فبعضهم يصرّح بأن مصدر الإلزام الأخلاقي هو (1) المصلحة الفردية أو الجماعية، أو (2) جماعة العقد الاجتماعي -مثل روسو ولوك وغيرهم-، أو (3) الإرادة العامة general well الذي اختلف فيه فلاسفة السياسة حيث قالوا أن هذا هو الشيطان، وقال عنه جون لوك أنه يجعل النظام الاجتماعي نظاماً شمولياً مستبداً بداعي الإرادة -كالتأميم وما فيه من نهب ممتلكات الناس-، فلا يوجد شيء يسمى إرادة عامة لأنك لا تستطيع أن تحقق شيئا في نفس الأمر هو عام رغم أنه لا يوجد إلا أفراد، وهذه إشكالية فلسفية في كل كلام الرأي العام، فما هو الرأي العام؟ لا يوجد شيء اسمه رأي عام أصلًا، فهو ليس إجماعًا بالنهاية، ويمكن أن تنتج نظاماً ليبراليا، لكن يبقى هذا نسبي، لأنه لا يوجد مصدر متعالي، فيقال أن هذه هي المصلحة العامة، وصدق من قال بأن الديموقراطية لها أنياب أشد من أنياب الديكتاتورية، (4) لذلك بعض المفكرين -مثل هوبز وهو من رموز المادية- يرى أن مصدر الإلزام القانوني الكتاب  المقدس، فهو لم يكفر بالكتاب المقدس رغم كونه ماديا، وإنما انطلق من منظور تاريخي معين، وهذا الكتاب هو المصدر المتعالي عند الناس ويؤمنون به، وفعل الأمر نفسه جان جون جاك روسو في (العقد الاجتماعي) فكتب فيه فصلا عن الدين المدني [صـ163] و هو ليس مؤمناً، لكنه يقول بأن المجتمع يلزمه دين و منظومة قيمية متعالية الناس تؤمن بها، و هذا هو دين المجتمع الذي يكون المعيار الأخلاقي، لذلك قال بأنه لا يصح أن يكون في المجتمع ملحدين، وله كلام قاسٍ عن الشواذ لأنهم يخالفون دين المجتمع -الدين المدني-.

هذا الاختلاف في المرجعية الأخلاقية هو الذي حدا بعض الملحدين والنسبويين إلى تأليف الكتب حول خرافة الأخلاق الاستقلالية autonomy of ethics (1)، وهي أخلاق موضوعية بمعزل عن الوجود المتعالي، لذلك من أشهر مفاهيم كانط هو مفهوم الواجب الأخلاقي، وليس له حاصل تحته، فما الذي يجب أن يفعله الفرد؟ وما الذي يوجب فعله؟ لذلك سنتكلم عن كانط ومفهومه الأخلاقي والوجود الإلهي عنده.

إشكالية الأخلاق الاستقلالية:
1.      النسبية: أن هذا الموضوع سيبقى نسبيًا، فلا تستطيع أن تقول إنه عام لكل أحد، كأن تقول إن الصدق خير؛ لأنه قد يخالفك فيه أحد، وقد يخالفك أحد في أفراد هذا الصدق، فليس كل صدق خيرًا، وبالكلام عن هذه المسألة في مسألة الخير المجتمعي ومفهوم العدل، فما مفهوم العدل؟ لا يوجد مرجع متعالي.
2.      الإلزام: عندما أثبتنا موضوعات ذاتية مستقلة للخير -بغض النظر عن الإله- فكيف تضمن إلزاميتها للناس؟ وفي هذا مدارس في فلسفة القانون، منهم من يقول: بالسلطة، ولهذا نشأ (المجتمع المدني)، ونشـأته له فلسفة عريضة، لكن في المجتمع المدني الإلزام يبقى محدوداً؛ فإذا أمكن للإنسان أن يتفلّت من سلطة المجتمع والقانون فأنت لا تضمن أنه أخلاقي، بخلاف الإنسان الذي يرجع إلى كتاب مقدس أو إلى الله أو إلى أي معنى هو يعتقد أنه متعالٍ و ثابت في نفس الأمر، فضلاً عن أن يكون له سلطة حاكمة على الكون وأنه يثيب ويعاقب كما في المنظومة التوحيدية، لذلك من أقدم من طرح هذه القضية -إلزامية الأخلاق- أفلاطون في كتابه (الجمهورية 1،2) على لسان الناس الأبطال حين طرح معضلة الخاتم التي تتمثل في أن شخصًا وجد خاتمًا، فتختمّ به، ثم اختفى، ولما اختفى وجد أن كل شيء أمامه؛ يستطيع أن يأخذ ويضرب ويقتل، فبدأ يسأل نفسه الأسئلة الوجودية: هل أنا ملزم بفعل الخير؟ ولماذا؟ ولو خالفت الواجب الأخلاقي فما المشكلة الأخلاقية في ذلك؟

هذه هي القضية: لا يمكن أن تفرض أخلاقاً عامة؛ مضادة للنسبية، وملزمة بدون الدين؛ التوحيد.

تعود أصول هذه "الربكة" لمؤلفات كانط الثلاثة، ولذا فمن المهم مناقشة أفكاره، وتحدثنا سابقا عن مفهومه للإله كـ "المنظم المعرفي" في كتابه (نقد العقل المحض)، أما في (نقد العقل العملي) فبعدما بحث في موضوعية الأخلاق، وموضوعاتها، والحاسة الأخلاقية، وصل في النهاية إلى أنه لا يمكن ان يكون الإنسان أخلاقيًا دون حرية الإرادة، والخلود، والاعتقاد في الله -ولو كمنظم أخلاقي-؛ لأنه لا يكون لحرية الإرادة والخلود معنى من غير إثبات الوجود الإلهي، فأثبت الوجود الإلهي على نحو براغماتي وتوسلي وعملي في كتابه، فهذا هو الدور الإلهي في منظومة كانط التي هي -بطريقة أو بأخرى- سردية غير توحيدية؛ لأنها لا تسند الوجود إلى وجود متعالٍ إلهي، فهو يجعله منظّما معرفيا ويجعله منظما أخلاقيا، لأنه لا يمكن أن يكون الإنسان أخلاقيا ويحقق الواجب الأخلاقي الذي يجب عليه فعله وتركه إلا بالإيمان بالخلود وحرية الإرادة والإيمان بالوجود الإلهي الذي يحقق معنى الخلود، فما معنى الخلود لو لم يكن الله موجودًا؟ -هناك خلاف فلسفي عميق في تحقيق هذه الفكرة عند كانط، لكن يهمنا الفكرة العامة فقط-، ونفس المعنى ذكره دوستويفسكي بقوله: "لو لم يكن الله موجودًا، لكان كل شيء مباحا" فلماذا ستكون هناك محرمات دون وجود الإله؟، ورد عليه سارتر في كتابه (الوجودية مذهب إنساني) حول الوجودية الملحدة التي تؤمن بالحرية المطلقة -وهي غير الوجودية الإيمانية على طريقة كيرككورد 1-، وفي عبارة لشخص آخر: "إذا كان الله غير موجود فكان يجب اختراعه" لكي يستقيم النظام الأخلاقي، وهذه من أمثلة ما ذكرناه عن براغماتية بعض الأدلة على الوجود الإلهي، فهؤلاء الفلاسفة الغير مؤمنين بالإيمان الرسالي التوحيدي يرون أن الوجود الإلهي هو لب الأخلاقية والعامل الحاسم في الأخلاق، والحداثة -كما قلنا- لأنها استبدلت السردية الإلهية فنزعت السحر عن العالم -على رأي فيبر- وأرجعت ذلك للاهوت العقل الذي هو -كما قلنا- نسبي ومصلحي وليس مُلزمًا وبذا تكون كل أركان الأخلاقية مهدومة مما رجع على نفس المضمون الأخلاقي لا بالنسبوية فحسب وإنما بالشك والقلب -أي العكس- أيضًا.

[نجد ما قلناه ظاهرًا] في أطروحات نيتشه المجنون -وهو إرهاص ما بعد الحداثة- الذي بدأ يوجه النقد لكل قيم الحداثة سواء ابستمولوجيًا أو فلسفيًا أو أخلاقيًا، وعنده كتاب اسمه (جينالوجيا الأخلاق ، 1) أي تحليل الأخلاق تاريخيًا ومضمونيًا وأسسها ويورد فيه أنها [أي أسس الأخلاق] تاريخية كلها، فـ[حسب طرح نيتشه] من قال أن الفضيلة أمر جيد؟ ومن قال إن العفة جيدة؟ ومن قال إن مساعدة المحتاجين والضعفاء أمر جيد؟ إنما يجب قتلهم جميعا إذ لا فائدة لهم! فإذا لم نرجع الأخلاق إلى الله أرجعناها للعقل الذي يدل على أن القوة في كل المستويات هي الفضيلة وهذا مفهوم (السوبرمان) أو الإنسان القوي، وأن الحضارة المجيدة الحقيقية هي الحضارة الرومانية إذ تتجلى فيها معاني البطولة وهي أشرف المفاهيم الإنسانية ولكن أتى المسيح ليطمسها برسالته، لذلك كتب نيتشه كتابه الثاني (عدو المسيح)، وقال أن هذه الأخلاق إنما روجها الضعفاء ليخدعونا حتى نتنازل عن قيمنا الإنسانية الفاضلة وهي القوة والتحقق الإنساني بأن يبقى الإنسان قويًا وفارسًا ومنجزًا بعيدًا عن الانشغال بخدمة الضعفاء، وفي آخر كتابه هذا رد على الإصحاح عبر قلب ما ورد فيه! -وكنتُ نقلته في مقال قديم-، ووصل نيتشه لفكرة موت الإله وطرحها في كتاب (هكذا تكلم زرادشت) عبر القصة التي تعرفها وهي أنه لما دخل رجل على أناس جلوس في مقهى وهو يمسك المصباح أخذ يصيح: لقد مات الله، نحن قتلناه، كلكم قتلتموه، ...إلخ، فما فكرة موت الإله التي طرحها؟ هذه هي الفكرة الأخلاقية، وهي قضيةٌ -قضية موت الإله في الفلسفة الحديثة- ليست سهلة إذ لا يقصد بها عدم وجود الإله أو الإلحاد، وإنما أمر أدق، وكتب أحد الباحثين حول موت الإله في الفلسفة الحديثة بطرح 15 نموذجًا أو تفسيرًا لمعنى موت الإله عند نيتشه، فقد اضطرب الباحثون لهذا المفهوم اضطرابًا طويلًا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ أي أن بعضهم يرى أن نيتشه مؤمن إيمانًا عميقًا متصوفًا وأن معنى موت الإله عنده هو أن الحداثة قضت على وجوده في حياتنا وعقلنا وطرح فكرته بطرح شاعري symmetry كونه شاعرًا بطريقة الشعر المترسل، ومن الطريف أن هناك من يتصور أنه يبلغ أن يكون نبيًا لأنه هو ضد المسيح وزرادشت، أما في أقصى اليسار فيقولون أن معنى موت الإله هو أننا فككنا هذه المنظومة الحداثية؛ منظومة العقل والأخلاق والفلسفة الكلاسيكية، وبالتالي لا وجود لهذا الإله أخلاقيًا أو فلسفيًا، والمقصود من هذا كله أن هذه العبارة دقيقة من الناحية الأخلاقية؛ لأنه نفسه مضمون مقولة "لو لم يكن الله موجودًا، لكان كل شيء مباحا"، أي إذا لم يكن الله موجودًا فلا يمكننا أن نستند إلى أي فضيلة، لذلك طرح نيتشه مهم وهو فيلسوف محوري في الحداثة بعد طرح كانط لأنه فتح عينيه تحت الماء وأوقف الحداثة أمام المرآة فعكسها لهم على المستوى الأخلاقي بإرجاعها الأخلاق إلى العقل والمصلحة والفردانية؛ إذًا كل الفضائل لا معنى لها.

لذلك فنحن نقول أن المنظومات الحداثية غير أخلاقية، لكن هذا ليس معناه أنها تفضي إلى الرذيلة بالضرورة، بل المعنى أن ليس بها ضمانات أخلاقية كافية لتحقيق الفضيلة، فالكلام الذي قاله نيتشه -من نقده للحداثة ومستلزماتها على الجانب الأخلاقي- يجعل الكثير من الباحثين يرجعون أصول الاقتتالات العظيمة كالحرب الأولى والثانية للحداثة، ومنه كتاب (الحداثة والهولوكوست) الذي يرجع الأساس الأخلاقي للمذابح وقتل ملايين البشر للحداثة بطريقة أو بأخرى، أما نحن فلا نقول أن الحداثة تستلزم هولوكوست، لكن الذي نقوله أن الحداثة لا تمنع بالقدر الكافي من الهولوكوست، أليست تؤمن بالمصلحة العامة general well؟ فقد تكون المصلحة العامة في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، فهتلر كان منتخبًا ديموقراطيًا، وكان عنده مشروع أخلاقي لا يعود مرجعه للوحي والدين بل مرجعه للعرق؛ فهو رجل شوفيني وعنده تصور معين فاشي وحكمه شمولي، أي أن هذه هي منظومته الأخلاقية وسرديته، فإذا كنتَ ستدفع، فما هو وجه الدفع الذي تستطيع أن تدفع به؟ [هل سترد] على الشوفينية أو القومية أو التصلب القومي أو مساواة الناس لبعضهم من حيث الطبيعة؟ [هنا يمكن الرد بالقول] من قال أن الناس متساوون من حيث الطبيعة؟ وهذا يُسمى في علم اجتماع المعرفة "الأساطير المؤسِسَة للعلوم"، فالنقد الموجه لفكرة الليبرالية -مثلا- أنها قائمة على أسطورة أو خرافة أن الناس متساوون بالطبيعة -كما يقول لوك وروسو-، والحقيقة أن الناس ليسوا متساوين لا بيولوجيًا ولا من ناحية الخِلقة ولا من حيث الظروف الاجتماعية، لذلك كل ما ينقده الملحدون على الأسس الدينية للأخلاق أو السياسة وغيرها هم واقعون في أعظم منه؛ فأنت في النهاية ترجع ذلك إلى وجود متعالي متحقق في نفس الأمر، لكن هو لا يؤمن بذلك ثم نجده لا يملك على ما يعتبره مسلّمات دليلًا لا بالحس ولا بالعقل، لكنه يفترضها افتراضاتٍ مسلميّةٍ لـتصحيح الأخلاق؛ أن الناس متساوون بالطبيعة رغم أنهم غير متساوين، وبالتالي المبدأ الأخلاقي منقوض، لكن عند إسناد الأساس الأخلاقي لوجود إلهي متعالي لا أحد أعظم منه أو يساويه فالعلاقة بين الله U والخلق هي علاقة العبودية وهذا هو مناط الإلزام؛ وليست هي العبودية المحضة الجبرية الملكية لكنها العبودية التي هي لسيّد خيّرٍ وأخلاقي، لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لم يقل حول الآية الكريمة: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} كما قال من يعرض هذه الآية في سياق أن الله U له الملك والأمر -وهذا حق- لكن الشيخ قال: "هو سبحانه لا يُسأل عما يفعل لكمال حكمته ورحمته وعدْله، لا لمجرد قهره وقدرته حكمةً وعلمًا" الفتاوى، ج8، صـ510، فليست القدرة فقط وإنما الحكمة كذلك، فهذه التراتبية الإلهية بين الله U والعبد في المنظومة التوحيدية تضفي الإلزام من جهة أن الله U متعالي، وأن {اللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وأن {اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ}، وأن {اللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}، وأن العلاقة بين الله U والعبد هي علاقة العبودية وعلاقة الأدنى بالأعلى، وهذا كله غير متحقق في النظم الأخلاقية التي ترجع الأخلاق لأي منظومة سواء فكرية أو عقلية أو أساطير مؤسِسة كأسطورة تساوي الناس أو الطبيعة الخيرة للبشر أو نحو ذلك.

باختصار، تحدثنا عما يتعلق بالمجال الأخلاقي من ناحية: أخلاقية التوحيد نفسه، وأخلاقية الإنسان بالنظر إلى حالته الطبيعية وعلاقة ذلك بالتوحيد، ومصدر الإلزام الأخلاقي مع وجود التوحيد وبدونه، وصور ذلك في المنظومات المنافسة والمعارضة للتوحيد وأثرها على الأخلاق.

قلنا إن الحداثة لا تمنع بصورة كافية من حدوث الممارسات اللاأخلاقية، فـ هل الأفضل الديموقراطية العلمية أو الاستبداد الديني؟ والجواب هو أن هذا السؤال مغالطي لكونه سؤال خيار ثنائي؛ لأن هناك خيار ثالث وسطي، فلست مطالبًا أن أختار إما الاستبداد الديني أو الديموقراطية الليبرالية، وقد تطرح هنا إشكالية أننا نعيش مقهورين، ولا شك أننا نعيش ذلك إذ أن الحداثة تفرض هذا القهر، فهي ليست بمذهب فلسفي وإنما حضارة نعيشها، فنحن ننقدها ونحن داخلها إذ أننا محكومين بمظاهر الـ modernity في مختلف جوانب حياتنا، ولا بد علينا من إدراك هذا الأمر، وكوننا نعيشه لا يعني ألا نرفضه لمخالفته لتصوراتنا الدينية وإيماننا، ونفس الأمر ينطبق في ظل الديموقراطية العلمية أو الاستبداد الديني؛ فقد نعيشها لكن نرفضها، وأثناء ذلك يمكن أن نبحث في الممارسات التي يمكن التعاطي من خلالها مع هذه الأوضاع لتخفيف أضرارها، أو نحاول إنتاج خطاب آخر، وغيره.

وقد يعترض البعض على أن الحداثة لا تمنع بالقدر الكافي عن الهولوكوست ويدعي أن السردية التوحيدية لا تضمن الفضيلة مستشهدا بالحروب في التاريخ الإسلامي، ولستُ في معرض الدفاع عن تاريخنا، فهو تاريخ سياسي باستثناء فترات خاطفة، ولذا نرى فيه قتل وسفاحين، فـ ما الفرق بين الحروب [اللاأخلاقية] في التاريخ الإسلامي والحداثة؟ يكمن الفرق في جانبين:

f    أننا نتحدث الآن عن الجانب المنظومي الفكري، وكل الحضارات والممارسات السياسية والسلطوية والأخلاقية ترجع إلى منظومات فكرية، والنقد الموجه للحداثة أن نفس منظومتها الفكرية على المستوى السياسي والأخلاقي لا تمنع -وليس تستلزم- الممارسة اللاأخلاقية بصورة كافية -على الأقل-، وهذا غير موجود قطعًا في المنظومة الدينية الأخلاقية للحكم؛ فهي لا تقر بل وتمنع أفعال المجرمين الذين قتلوا وسفكوا الدماء على مر التاريخ، وفيها الإجراءات الكافية للمنع منه كما في نصوص التحريم وما ينبغي أن يفعل معه، وهذا يمكننا من الحديث عن تخلف السلوك عن المنظومة في المنظومة الدينية، وهذا غير موجود بصورة كافية -على الأقل- في الحداثة والعلمانية -بما أنها هي الآلة الأساسية- والدولة الحديثة.
f    الفارق بين ممارسات القتل في المنظومة الدينية والحداثية في المطابقة، فالحداثي قد يرفض سفك الدماء كموقف فردي، لكن إذا طابق هذه الممارسات اللاأخلاقية بالمنظومة الفكرية فلن يتمكن من إرجاع هذا النقد الفردي لأساس المنظومة الحداثية، وبالتالي هذا يرشح أن تستمر هذه الممارسات اللاأخلاقية مادامت هذه المنظومة موجودة، وهذا ليس موجودًا في الإسلام الذي يُتيح دائمًا مجالاً للتجويد والإصلاح ضمن منظومته الأخلاقية، وهذا ليس مضموناً في المنظومة الفكرية للحداثة.

وإذا كان كلا الفردين -المنتمي لمنظومة دينية والمنتمي لمنظومة حداثية- يعيشان تحت الممارسات اللاأخلاقية لهذه النظم، فعلى الأقل تتيح المنظومات الدينية لمنتميها اتخاذ موقف أخلاقي راجع لإيمانهم من هذه الممارسات، ويبقى عندهم هذا الموقف المطلوب للفرد بحيث لا يتعاطى مع هذا الظلم في دوائره الضيقة المحدودة التي له فيها تأثير وقدرة وإمكان، فيحقق هذا المعنى الديني -على الأقل- كي يلقى الله U به ويثاب عليه في الآخرة وهذا المقصود الأساسي من الأخلاق وهو نفع الناس من أجل الحصول على الرضا الإلهي، وقد يمارس خطابًا أخلاقيًا إصلاحيًا.


الجواب نعم الوجود أخلاقي، و -من الكلام الرائج- أن هذا معَارَضٌ بأن الشر داخل في الوجود؛ والرد على هذا بسيط إذا نُظر إليه من داخل المنظومة التوحيدية ومفهوم التوحيد الذي ينتج الإجابة على مفهوم الشر، وقبل ذلك نسأل: هل الوجود خيّر أم لا؟ والجواب نعم الطبيعة والخليقة خيّرة، وجانب الشر فيها قليل جدًا إلى حد الندرة، ودليل كون الوجود أخلاقي وخيّر هو:

f    أن الله U طيّب وخيّر ولا يصدر منه إلا خير، فلا يصدر منه شر محض -أي شر من كل وجه- البتة، ونحن ذكرنا أن الله U موجود وثابت في نفس الأمر، والمحققون من العلماء يقولون: "إن الخير وجود، والشر عدم" (1) فكل الشرور أعدام لكن متفاوتة في ذلك.
f    أن الكون قائم على النظام والعناية؛ فإذا نظرنا في الوجود نجد أنه أُعدّ إعداداً سابقًا ليُلبّي حاجة الإنسان، ومن أمثلة ذلك أن الإنسان يجوع فيجد في الطبيعة ما يأكل، وينطق ذلك على شعوره بالعطش والبرد ...الخ، فكل الموضوعات الأساسية التي من غيرها يموت الإنسان أو يشقى موجودة في الطبيعة من حيث العموم - إذ يحدث الابتلاء الفردي بأن يجوع أناس ولا يجدون ما يأكلونه ولكنه ليس الأصل-، وهذا النظام الموجود في العالم وهذا القدر من التركيب يستحيل على الصدفة؛ أن هذا المكان من العالم هو الذي تُمكِن فيه الحياة، وأعد لذلك إعدادًا، فهذا الإعداد الذي يلبي حاجة الإنسان لا شك أنه أخلاقي، فالله U لم يَخلُق الكون عبثًا، وهذا من حيث العموم والأصل، لذا فالأصل أن الطبيعة خيرّة.

أما وجه خيرية الطبيعة فنعقله لوضوحه؛ أنها غائية، منظمة، معدّة على نحو غاية في التركيب والتعقيد.

جواب المنظومة التوحيدية على الشرور المحضة في العالم:
هناك شرور في العالم، فهناك:
f    شرور تكون نتيجة كسب الناس، وهي الأفعال الاختيارية، كأن يقتل شخص آخر، ونحو ذلك: هذا ليس شراً وجوديًا، بل هو شر أخلاقي يرجع لحرية الإرادة التي هي لب الأخلاق، وليس هو محور الحديث.
f    شرور محضة أو "مصائب سماوية"، كالفيضانات والحوادث القدرية التي لا دخل للإنسان فيها: هذه نادرة في الوجود، ولا شك أنها خلاف الأصل، وإلا لما كانت الحياة ممكنة في الأرض.

ويهمنا هنا الحديث عن الشرور المحضة أو ما يسميه الفقهاء بـ "المصائب السماوية"، وقد قدمت المنظومة التوحيدية الإجابة على سؤال الشر، وهو:
f    أولًا: أن الحياة الدنيا ليست دار قرار ولا ثواب وهي ناقصة بعكس الآخرة التي هي دار الحيوان -أي الحياة الكاملة- والمصير والأبدية.
f    ثانيًا: أن ما يوجد في الدنيا من شرور جزئية تترتب عليه مصالح أخرى سواءً للذين أصيبوا، أو لمن أُضيروا في الذين أصيبوا، أو لنفس النظام، أو لحصول العِبر، وأمور كثيرة غيرها، وهؤلاء الذين أضيروا سيعوضهم الله U عن الآلام -و "عوض الآلام" لفظ المعتزلة -، إذًا هو ليس شراً محضاً بل تترتب عليه حكم وفوائد.
f    ثالثًا: أخلاقية الوجود الإلهي، فإذا كنا نثبت أخلاقية الوجود الإلهي لكماله واستغنائه، فإنه لا يؤذي الخلق ويضرهم لمحض الإيلام؛ إذًا هذه الأخلاقية تجعل عندنا فرضًا مسبقًا وهو حقيقة الإيمان بالابتلاء في الشر الذي يصيب الإنسان فيقول: "قدر الله وما شاء فعل" أي قدّره الله حكمةً وعلمًا وليس على المعنى الملكي الجبروتي فحسب، فهذان المعنيان [كونه حكمةً وعلمًا إلى جانب المعنى الملكي الجبروتي] مقرونان لا ينفكان بالمعنى الرحماني الحِكمي -أن له في ذلك حكمة-، فتحال تلك الحكمة والرحمانية على خيريّته وأن الله U حكيم عليم، ثم تحال على المنظومة الوجودية التي يصورها التوحيد وهي وجود الدار الاخرة.

هذا هو الحل الديني البسيط لمعضلة الشر، وأيّ حلّ آخر مهما كان فلسفيًا ويقدم إجابات -كمداخل الثيوديسيا ومعضلة الشر وغيرها- فكل تلك المداخل لابد أن تقف ذليلة عاجزة أمام الإطلاق الإلهي في قدرته وحكمته وفي وجود الدار الآخرة وحصول الخلود الذي هو "مصحح الأخلاقية" كما أورد كانط.

السياسة في المنظور الديني والمنظور التوحيدي خصوصًا هي فعل أخلاقي وليس أمرًا مصلحيًا محضًا، فحتى المصلحة فيه مربوطة بالمعنى الديني، ولذا فالحكم بما أنزل الله U هو تعبد له U وإحسان لخلقه.


تكلمنا سابقًا عن وجه الإلزام في الأخلاق، ونتكلم عنه الآن كما يذكر في المباحث التي تدرس في فلسفة القانون نفسه، ونعني به [أي الإلزام] الإجراء التنميطي للأخلاق في صورة منظومة ثواب وعقاب، قال I : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ويستفاد من هذه الآية أمور كثيرة مما سبق الإشارة إليه، منها: 

f    أولًا: أن الحكم الإلهي هو أحسن حكم؛ لأنه مستند إلى الله U، وهو أحسن الحاكمين، وهو الكامل، فيكون حكمه في الخلق كاملًا. 
إذًا المنظومة التوحيدية تُنشئ الحاكمية -التي هي السلطة السياسية- الأفضل والأحسن كما قال I: {وَمَنْ أَحْسَنُ} أي لا أحسن، وهذا منسجم مع ما ذكرناه في النظام الوجودي وعلاقته بالتوحيد.
وسمَّى خلافه {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ} أي الحكم الظالم؛ لأن أصل الجهل في العربية خلاف الحلم لا خلاف المعرفة، فالجاهليون مهما اتّصفوا بشيء -أو أشياء- من محاسن الأخلاق إلا أنهم موصوفون بها على غير سبيل العدالة المحضة التي لا تكون إلا بالحكم الإلهي، 
f    ثانيًا: أنه I قال: {لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، وهذا مُشير بمعنى الإلزام والقيمة، ففي اللاهوت السياسي لمنظومة التوحيد يؤثر على النظام سياسةً وحكمًا وقانونًا أمرين في غاية الأهمية، وهما: (1) الإلزام -ذكرناه في الأخلاق-، (2) القيمة، أي أنها تُضفي عليه القيمة.
إذًا، {يُوقِنُونَ} إذا آمنوا بهذا الحكم، وأنه من الله I -لأنهم مؤمنون-، فحصلت لهم القيمة في الفعل السياسي، وحصل لهم الإلزام في الحكم والالتزام من المؤمنين.
إذًا، هذا هو التّأسيس للأساس القانوني للتوحيد؛ أن الله U خالق كل شيء، فالله U هو الذي يحكم بين العباد لأنه خلقهم، وهذا الأساس غير موجود في أي منظومة سياسية أخلاقية أخرى تُرجع الإلزام إلى المعرفة أو المصلحة أو المساواة أو نظام وطني أو نظام عرقي، ولا يوجد أي نظام يُمثّل الإلزامية مثل النظام اللاهوتي -واللاهوتي بمعنى ماهيّة السلطة-، فليس هناك موضوع للإلزام القانوني متفق عليه بين الناس إلا إذا كان أصله متعاليًا، ولذلك شيخ الإسلام -رحمه الله- عنده نصّ نفيس يقول فيه: "الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء وإذا ردوا إلي عقولهم فلكل واحد منهم عقل وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم : أن العقل أداة إلى علم ضروري ينازعه فيه الآخر فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة" الدرء، ج1،ص133، فإذا كانت الشريعة من السماء فإن جميع الناس متساوون تحتها جهويًا؛ أي من جهة كونهم عبيدًا، إذ يمر عليهم الحكم نفسه حتى لو لم يكونوا متساوين في الخِلقة أو في الإرادات، إذًا فلسفة الإلزام القانوني في منظومة التوحيد أنه متعال، وكما قال ابن تيمية -رحمه الله- أن الناس لا تنتظم إلا بشريعة من السماء، فهي التي تحكم أهواءهم، وتسيّر عقولهم، ويخضعون لها.

التوحيد يُعطي الأساس الأخلاقي للمِلك، وقضية المِلك وأصله من المسائل التي كثر فيها كلام الفلاسفة كمفهوم الحق الطبيعي والمِلك والتّصرف، ونحن لأننا نعيش ونرث ما بأيدينا ممن سبقنا لا نعرض أصلًا لهذا الإشكال الفلسفي؛ كيف يملك الإنسان الأشياء؟ اختلف الفلاسفة في هذا الحق الطبيعي المتمثل في كيف وقعت ملكية الإنسان على الأشياء، فبعضهم يقول: 
f    أن الملكية مرتبطة بالوجود، فما هو موجود بالمكان يصبح ملك الفرد وهذا أصل الملكية
f    أنها مرتبطة بالقيمة، فالأشياء الأكثر قيمة تكون ملكًا للجماعة
f    أنها متعلقة بالوظيفة -كقول أرسطو-، فمثلًا الإنسان الذي يزرع يملك في الطبيعة الأشياء التي يزرع بها ويزرعها وهكذا 
f    أنها مرتبطة بالعمل، وهذا المفهوم الاشتراكي الذي يصل إلى حد الشيوعية؛ أي أن رأس المال شِرك بين الناس لا تقع عليه الملكية إلا العمل والإنجاز، والعامل يكون شريكا في المنتج الذي ينتجه ليس في الغلة، فلا يأخذ شيئا من الغلة

التفسير اللاهوتي للمِلك: 
نظم الشّارع ذلك، فالله U هو مالك المُلك ومالك كل شيء، وهو الذي ملك الناس على جهتين:

1.      بالإذن العام عبر الإباحة {سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات وَمَا فِى الارض جَمِيعاً مِّنْهُ}، وبهذه الإباحة صحت المِلكية للناس، فالله I خلق آدم، فيكون ما يقع تحت تصرفه مأذونا له في استعماله من الله I
2.      يندرج من (1) التمليك الشرعي الخاص؛ أن الله U خلق الناس لعبادته، ومن ثم فإن هناك معنى أخلاقيا للمِلك، بمعنى آخر أن الذي يعبد الله I فملكه من هذه الجهة الأخلاقية صحيح، أما الكفار والمنافقون والملحدون و المعاندون وغيرهم فهؤلاء -من وجهة النظر التوحيدية- غاصبون وإن كانت تمضي تصرفاتهم ظاهريًا حتى ينتزعها منهم المؤمنون، وهم غاصبون لأنهم  فاقدون للمعنى الأخلاقي للإذن العام؛ أن الله U خلق هذا الكون للناس كي يعبدوه، لذلك يبين شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا المعنى الأخلاقي للمِلك وأنه مادام له أصل أخلاقي فيمكن أن ينتزع أخلاقيًا، فيسمي الشيخ المال المكتسب من الكفار من غير قتال "فيئًا"، والفيء هو الرجوع: فاء، يفيئ، أي رجع، ويقول : "فهو فيء ; لأن الله أفاءه على المسلمين ; فإنه خلق الخلق لعبادته وأحل لهم الطيبات ليأكلوا طيبا ويعملوا صالحا . والكفار عبدوا غيره فصاروا غير مستحقين للمال . فأباح للمؤمنين أن يعبدوه وأن يسترقوا أنفسهم وأن يسترجعوا الأموال منهم . فإذا أعادها الله إلى المؤمنين منهم فقد فاءت أي رجعت إلى مستحقيها" الفتاوى، ج28،ص562، وهذا كلام في غاية الأهمية لأنه يجعل أصل المِلك أخلاقيًا، ويربطه بقيمة الأخلاق، وبذلك يصحح التصرفات عليه مادام موافقًا للأخلاق، ويمكن أن ينتزع هذه الملكية بالدافع الأخلاقي، لكن هذا ليس عامًا؛ يعني ليس كل دافع أخلاقي يمكن أن ينتزع الملك، ولكن نتحدث هنا عن تصحيح هذا الأصل.

فنفس مفهوم المِلك -الذي هو أساس التصرفات القانونية وينشأ عنه مفهوم الذمة- فلسفته التوحيدية هي الوحيدة التامة، وكل التصورات التي ترجئ الملك إلى أساطير مؤسِسة -كالمساواة والوظيفة وغيرها- أو إلى رأس المال أو إلى العمل -كما في الاتجاهات الاشتراكية والشيوعية- كلها غير مطردة، وكلها يمكن أن تنتج المظالم التي لا ترجع إلى مرجع أخلاقي، وهذا وجه كبير من النقد الذي يوجه من الاشتراكية للرأسمالية؛ أنها مخالفة للعدالة الاجتماعية، والذي يوجه من الرأسمالية للشيوعية؛ أنها مخالفة للحريات والمِلك الشخصي.

المنظومة المنافسة للتوحيد في المجال السياسي والقانوني هي العلمانية، والمنظومة العلمانية تنزع المتعالي و المقدس عن السياسة والحكم وكل مناحي الحياة، ولا إشكال عندها أن تسند تشريعًا أو سياسةً لوحي أو كتاب مقدس لكن ليس على أنه متعالٍ لا يقبل النقد والمراجعة والتعديل والاستصلاح والمصلحة وإنما لأن له قبول مجتمعي أو كونه مرجعية اجتماعية أو أنه مقبول عقلًا، وهذا يسمى الإحالة؛ بمعنى أنها تحيل ذلك على معنى آخر، وتجعله [أي ذلك المعنى] متعاليًا في حقيقة الأمر، و لا تخلو سياسة من لاهوت، حتى العلمانية لها لاهوت.

س: هل الدين يحكم كل تفاصيل الحياة؟
الإجابة ليست بنعم ولا بلا، فهناك مستويات مختلفة من الحاكمية الدينية، وهي التي تخرج بالإنسان من الحكم العلماني اللاقيمي أو من الحكم الثيوقراطي الذي يتحكم في كل شيء بمنطق النيابة عن الله، وكلاهما ليسا جزءًا من الدين، ويطرح الدين تصورًا مختلفًا فيسند جميع تصرفات الحكم للأساس المتعالي لكنه يفرق بين: (1) مجموعة من التصرفات يرجعها إلى الدين مباشرة، وبين (2) العفو العام.

فأما ما أرجعه الشارع للدين مباشرة فبعضه عام وهو الأصول الكبرى والقضايا الكلية، وبعضه تفاصيل صغرى رأى الشارع أنه ينبغي أن يتصرف هو فيها بالحكم، ومن أمثلة ذلك ما يتعلق بكيف تحلق شعرك أو تلبس ملابسك وغيرها مما تعتبره الليبرالية مقدسات وفردانيات لا يتدخل فيها الدين -بالنسبة لهم-.

ومن العام ما هو بمثابة الضوابط الأخلاقية والقيمية تندرج تحته تفاصيل جزئية لا تنحصر، كلها تدخل في مساحة ما يسمى بـ "العفو الديني"، ولا يقصد بالعفو الإباحة أو التجويز وإنما المقصود به هو مطلق الترك؛ أي عدم تعلق تلك المساحات بالاسم الديني - وإن كان من الممكن أن تكون سياسة ضارة أو غير نافعة أو غير مجزية أو غيرها أنفع منها-، لأن الله U لم يحكم فيها حكمًا، وإنما تركها لشخص من الناس ولأعرافهم وتجاربهم واستصلاحهم وعقولهم، فإن وجدوها نافعة فعلوها وإن وجدوها ضارة تركوها، ويمكن أن يمنعها فقيه أو حاكم في ظرف أو غرض ما وفق عرف أو تجربة أو مصلحة، وهذا يحقق الإبداع في الحياة؛ أن هناك إطلاقًا للإبداع في هذه المجالات، فمثلًا: المجالات الاقتصادية وضع لها أحكاماً عامة -كمنع الاحتكار والربا والغش والغرر وغيرها- وتحتها يبدع الناس في تلك التصرفات الاقتصادية، وهذا ينطبق على مختلف المجالات، فهذا العفو نفسه يكون مأطوراً بالقيم الأخلاقية التي وضعها الشرع؛ إما للمجال نفسه -كالاقتصاد مثلاً نجد تحته قيم معينة- أو بالمباني العامة -كمنع الضرر وسد الذريعة والمشقة والمصلحة وغيرها-.

س: بأي وجه يصح إرجاع هذه الأطر العامة الأخلاقية -كالضرر والمشقة ونحو ذلك- إلى الدين -بحيث نقول إن السياسة في الإسلام أخلاقية ودينية-، بينما يظهر أنها أطر عقلانية وبراجماتية حتى العلمانية تنادي بها؟
الجواب هو أن الدين يضفي على هذه الأطر العامة التي يشترك فيها جميع الناس -كعنوان ليس كتحقيق مناط في التصرفات تحتها- يضفي عليها أمرين: (1) المعنى، و (2) القيمة، وذلك من جهتين: 
f    الجهة الأولى: أنها تعلق تلك القيم والأخلاق بالأمر الإلهي بما يجعلها متعالية، ومطلقة، ومقدسة، وليست خاضعة لظرف اجتماعي زمني خاص بحيث يُتصور أنها غير مرغوبة في مجتمع ما إن اتُفِق على ذلك مثلًا أو رأى مصلحته في تركها، إذًا هو سؤال الغاية واستمداد القيمة الذي لا يمكن أن يلبيه إلا الدين، إلى جانب أن الإطار الأخلاقي المجرد للمصلحة لا يمكن أن يلتزم صفة الشمولية والإلزام العمومي إلا بالبعد الديني كما ذكرنا في معضلة الخاتم.
f    الجهة الثانية لوجوب إضفاء المعنى والقيمة الدينية على القيم الأخلاقية البراجماتية العامة في السياسة: هو أن المعنى والقيمة الدينية -بهذه المعايير والمظلات الأخلاقية العامة- هي التي تحقق مقام العبودية، وهذا أساس في منظومة التوحيد، فالعبودية وهيمنة المقام الإلهي له فائدته سواء في ترتيب أحكام دينية مختلفة تتعلق بالدنيا والآخرة -مثلًا أن اثنان قد يفعلان فعلاً واحدًا تتحد صورته في الظاهر لكن أحدهما يعاقب والآخر لا يعاقب شرعاً، أو أن يثاب أو لا يثاب في الآخرة-، وقد تكلم شيخ الإسلام -رحمه الله- في كتابه (السياسة الشرعية) عن  المؤلفة قلوبهم: "والمؤلفة قلوبهم نوعان: كافر ومسلم. فالكافر: إما أن يرجى بعطيته منفعة: كإسلامه; أو دفع مضرته إذا لم يندفع إلا بذلك. والمسلم المطاع يرجى بعطيته المنفعة أيضا كحسن إسلامه. أو إسلام نظيره أو جباية المال ممن لا يعطيه إلا لخوف أو النكاية في العدو. أو كف ضرره عن المسلمين إذا لم ينكف إلا بذلك. وهذا النوع من العطاء وإن كان ظاهره إعطاء الرؤساء وترك الضعفاء كما يفعل الملوك; فالأعمال بالنيات; فإذا كان القصد بذلك مصلحة الدين وأهله كان من جنس عطاء النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وإن كان المقصود العلو في الأرض والفساد كان من جنس عطاء فرعون; وإنما ينكره ذوو الدين الفاسد كذي الخويصرة الذي أنكره على النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال فيه ما قال وكذلك حزبه الخوارج أنكروا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ما قصد [ ص: 291 ] به المصلحة من التحكيم ومحو اسمه وما تركه من سبي نساء المسلمين وصبيانهم"، فالفساد دخل في هذا الباب عند من حكم بحكم واحد لاتحاد الصورة مثل ذو الخويصرة التميمي وحادثته "بعث علي وهو باليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها، فقسمها بين الأقرع بن حابس الحنظلي، ثم أحد بني مجاشع، وبين عيينة بن بدر الفزاري، وبين علقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وبين زيد الخير الطائي، ثم أحد بني نبهان، قال: فغضبت قريش والأنصار، فقالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا؟ قال: "إنما أتألفهم", قال: فأقبل رجل غائر العينين، ناتئ الجبين، كث اللحية، مشرف الوجنتين، محلوق، قال: فقال: يا محمد، اتق الله, قال: "فمن يطع الله إذا عصيته؟ أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني!", قال: فسأل رجل من القوم قتله النبي صلى الله عليه وسلم أراه خالد بن الوليد، فمنعه، فلما ولى، قال:  "من ضئضئ هذا قوم يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام، كما مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" (1)، فيقول شيخ الإسلام -رحمه الله- أن النية إذا حسنت في إعطاء المؤلفة قلوبهم يثاب فاعله، وإذا لم تحسن النية كان من جنس أعطيات الطواغيت والفراعنة، فما الذي غيّر الحكم الديني والدنيوي على هذا الفعل؟ الجواب هو البعد الديني، ولدى شيخ الإسلام -رحمه الله- نصًا آخر بينتُه في مقال (الإسلام وتفاصيل الحياة)، وهو: "مثل أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث أو يعدل في قسمه وحكمه من غير إيمان بالله ورسوله؛ فإنه لا يخرج بذلك من الكفر؛ فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم" الفتاوى، فمن يؤدي الفضائل -كالأمانة والصدق والعدل- التي يدعو إليها الإسلام لكن يقوم بها دون إيمان فهو لا يخرج من الكفر لأنه لا يريد بها الإسلام، وفاعلها لم ينعكس عليه الأثر التوحيدي وتفعيل التوحيد، فلم يكن يرجو ثوابًا أو يحقق إيمانًا لله U، ويقول الشيخ في موضع آخر: "ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر ، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر ; فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم" منهاج السنة، ج5، ص130، فكل الناس تأمر بالحكم بالعدل، لكن الفرق أنه في منظور التوحيد يكون ذلك مرتبطًا بالقيمة، وهو الذي يضفي عليها القيمة الدينية التي تحقق الإلزام.

إذًا، يحكم الإسلام في تفاصيل الحياة عن طريق المظلة الأخلاقية العامة وعن طريق الكثير من التفاصيل التي حد له الشارع أحكاما ورأى أنه ينبغي هو أن يفصل فيها، وفائدة الدين أنه يضفي لتلك الأمور العامة -التي هي مرتجع للاستصلاح والاجتهاد والنظر والتجربة والصواب والخطأ- يضفي عليها: (1) المعنى والقيمة الذي يحقق الإلزام، و(2) البعد الديني الذي يحقق الثواب في الآخرة، و (3) بعض الأحكام الدنيوية المترتبة على الفسق والإيمان باختلاف الأفعال، ومشكلة العلمانية أنها تفتقد إلى المعنى -كما ذكرنا في الأخلاق-، وإلى القيمة، وإلى الإلزام الذي يضمن الأخلاقية -كما ذكرنا عن علاقة الحداثة باللاأخلاقية-.

بين الدولة الحداثية والدولة الإسلامية:
لذلك وائل حلاق في كتابه (الدولة المستحيلة) الذي يتحدث عن إشكالية الدولة الحداثية يرى استحالة تحديث الدولة الإسلامية؛ لأن الدولة الإسلامية أخلاقية بينما الدولة الحداثية عقلانية وليست أخلاقية، ولم يورد -كما فهم البعض- أن الدولة المستحيلة تعني استحالة الحكم بالإسلام، وإنما يقارن المنظومة التي يمكن منها المعايرة والمطابقة بين التصرفات والمنظومة، فيورد أن المنظومة السياسة الإسلامية أخلاقية عكس منظومة الحداثة التي هي منظومة مصلحية وعقلية وبراجماتية، وبالتالي لا يمكن أسلمة الدولة الحديثة لأنها غير أخلاقية بل عقلية ومصلحية، ولا يمكن تحديث الدولة الإسلامية للسبب نفسه، وبذا يوصل للإسلاميين رسالة عن استحالة الجمع بينهما، فما يمكن أن يحكم هو أحدهما لأن كلًا منهما له منظومته المتكاملة التي تختلف فيها باختلاف الإحالة واختلاف المرجع، فالإسلامية تتضمن الأساس المتعالي وما يندرج تحته من القيم العامة والأحكام الخاصة والموازنات التي بينهم وإضفاء المعنى والقيمة والإلزام، والحداثية تحوي أدواتها السياسية التي منها الصندوق والمصلحة والرأي العام والإرادة العامة وغيرها ومتضمناتها من الليبرالية و العلمانية إلى جانب أدواتها الاقتصادية المتمثلة في الرأسمال.

المفهوم اللاهوتي للتمليك وجهاد الطلب:
العلاقة بين المفهوم اللاهوتي للإسلام في الحكم وأخلاقيته والملكية ذكرنا أن أساسها لاهوتي أيضا بالتمليك الإلهي والتمليك الأخلاقي، وهذا يحل نظرا مهمًا يتعلق بجهاد الطلب أو الغزو، واسم الجهاد إذا أطلق في القرآن يراد به جهاد الغزو والطلب، أما الجهاد الثاني فهو الدفع {أَوِ ادْفَعُوا} وفضيلته كبيرة إذ يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- أنه أوجب الواجبات بعد الإيمان، لكنه دفاع عن النفس فهو أمر عقلائي حتى لو لم توجبه الشريعة فهو واجب مصلحي عقلي، فالجهاد الذي أتى به الرسول r والذي هو ذروة سنام الإسلام وتكرر ذكره في القرآن الكريم وتناط به الفضائل والأحكام هو جهاد الغزو {أَوْ كَانُوا غُزّى} "من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق" صحيح مسلم، وحقيقته انتزاع الأرض من الكفار وإقامة الحكم الإلهي عليها -كما ذكرنا سابقًا كلام شيخ الإسلام عن الفيء حيث يؤخذ ما في أيديهم لأنه ليس لهم إسلام يعصم ذلك المال ولا عهد ولا ذمة، فيكون الأصل فيه الإباحة؛  لأنهم غير موجودين في نظر الشارع، وهذا له أحكام فقهية، فالفقهاء يتكلمون أن المرتد والحربي ليس له حرمة، وهذا مضاد للقيمة الإنسانية التي هي أم الحداثة، وفي الإسلام لا ترجع الأحكام للإنسانية بل للإيمان، ومن ذلك يقول الفقهاء أن المؤمن إذا لم يكن معه إلا القليل من الماء مما يكفي لشرب اثنين أو وضوء وشرب واحد فيمكنه إما أن يتيم ليشرب هو منه ويشارك بشربه حيوان محترم، ويقصدون بالحيوان المحترم ما لم يكن مرتدًا ولا حربيًا ولا كلبًا عقورًا، أما إذا كان مرافقه أحد هؤلاء فعليه تقديم الوضوء عليهم فيشرب ويتوضأ منه، ففي هذه المنظومة الإسلامية تكون الإحالة للإيمان وليس على الإنسانية؛ فالإنسانية ليست شيئاً قيميًا أصلاً، فهي لا شيء في نفسها، ولدي كلام عن الإنسانية يمكن الرجوع إليه [أرجو أن يكون الرابط هو ما يقصده الشيخ]-.

وقد يظن بعض المسلمين أن جهاد الغزو لاأخلاقي زاعمين أنه احتلال أو استعمار أراضي غير المؤمنين، ويمكن مقارعة هذا النوع من الظنون بالسؤال حول الأساس الأخلاقي الذي يُرجعون إليه ملكية الأرض التي هم عليها إذ لا يوجد لهم في ذلك مرجعًا فلسفيًا أو أخلاقيًا يتحاكمون إليه في إثبات صحة ملكيتهم لها عند دخول محتل يصبو لامتلاكها، فحتى ما كُسب بالوراثة أو بخرافة صفاء النسب لم يكن أزليا لهم، فكل الأمم هاجرت من أرض إلى أرض ولا توجد أمة على التاريخ كانت قادرة على التوسع ولم تتوسع، ولذا فالأمثلة التي يذكرها السلاميون حول أثينا وفترات يسيرة من تاريخ الفراعنة ما هي إلا محض خرافة تجد فيها مصلحةً أو مانعًا ما من التوسع، فكل الحضارات توسعت لأسباب استعمارية أو غير استعمارية، ومن الأمثلة المعاصرة في ذلك الغزو الأمريكي ونشرها للديمقراطية، إذًا فالتوسع فعل إنساني.

الفرق بين التوسع الاستعماري الطاغوتي والجهاد بالمعنى الإيماني:
 الفرق في ذلك هو المرجع الأخلاقي، فلُبّ الجهاد في الإسلام هو المعنى الإيماني؛ أن يعبّد الإنسانُ الناسَ لله U، وأن يُفرَض حكم الله U في أرضه، وقد يترتب على ذلك مصالح أو آثار دنيوية مختلفة -كالاقتصادي منها-.

لكن لا يعني هذا أن دوافعه حصول تلك المصالح، وهذا يخالف ما يتحدث به بعض اليسارين من أن الجهاد دوافعه اقتصادية، بدليل أنه لو أسلم قوم على أرض لا يُغزَون ولا تُفتح بلادهم بل يُطلب منهم أداء الزكاة والحقوق التي تجب على مثلهم من المسلمين، وكذلك الأراضي التي فتحت صلحاً لا تؤخذ من أصحابها الأرض أو الغنائم ولا توقف إلى غير ذلك لأنهم أسلموا، ولا يعني ذلك عدم حصول ممارسات منحرفة في التاريخ أثناء الجهاد، لكننا نتحدث هنا عن الفرق بين المعايرة والمطابقة بين المفهوم والتصرفات، والمفهوم نفسه يقول أن أصل الجهاد دافعه وسببه الإيمان حتى وإن ترتبت عليه منافع من مغانم {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} وسبي وسعة في الأرض، لكن الأصل في ذلك هو الإيمان، لذلك فمن يخرج للجهاد وتتلف نفسه وماله فيه يعتبر أجره أعظم ممن عُجلت إليهم حسناتهم وأصابوا من المغنم، و "رُبّ قتيل بين صفين الله أعلم بنيته" المسند.

إذًا اللُّب الفاعل في الفعل التوسعي الديني هو اللاهوت، بعكس الاستعمار المحض في الحضارات والسلب والنهب بالمعنى المرجعي كما كان يحدث في غزوات العرب في الجاهلية أو الحضارات الرومانية والفارسية وغيرها، والتجاوزات موجودة لدى مختلف الأطراف [في التاريخ الإسلامي وغير الإسلامي]، لكن وُجد جهاد ديني تحقق فيه الأصلُ الإيماني في عهد النبي r  وخلفاؤه الراشدون، ففي عصر الخلافة الراشدة كانت التجاوزات تقع من القادة التحتيين، لكن الخلفاء الراشدون كانت لافتة الجهاد واضحة لديهم، فكانوا ينهون ويصلحون الأخطاء الحاصلة، ومن أمثلة ذلك تدخل عمر وعثمان -رضي الله عنهم- لإصلاح الأخطاء أثناء حصول بعض التجاوزات أثناء الجهاد خاصة في بلاد ما وراء النهر.

ثم دبّ النقص في ذلك كما دبّ في أكثر تصرفات المسلمين، وأول عرى الإسلام انحلالاً هو الحكم، وبالتالي نقص المعنى الديني في الجهاد لدى الأمويين، ففي العصر الأموي انقلب السلّم القيمي للحكم من الدين للعصبية كما أصبحت المصالح براجماتية أكثر، لذا أصبحنا نجد أن القادة في أسفل الهرم أكثر أخلاقية من بعض الخلفاء الأمويين في الجهاد، فنجد قادةً عظامًا خصوصاً في فتح أفريقيا وصقلية وجنوب أوروبا وغيرها، لكن الخلفاء أنفسهم كانوا في وادٍ آخر.

فكثيرًا ما نجد ممارسات خاطئة في التوسع والقتال بين الناس، لكن المرجع الأخلاقي موجود في المنظومة الدينية، وهذا ما جعلنا نقول للسلاميين -الذين يزعمون لاأخلاقية جهاد الغزو- بعدم توفر أي مرجع قانوني ولا فلسفي ولا أخلاقي يصحح ملكيتهم  لأراضيهم، فالمرجع الوحيد هو قوله U: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، وهذا هو المصحح للتسويغ الفلسفي والقانوني للجهاد؛ أنه ليس للإنسان مصحح لملكيته إلا التمليك الإلهي، فإذا كان الكافر كافراً فقد نزع الله U عنه هذه الملكية، والتسويغ القانوني للفعل الجهادي هو أنه: (1) تصرف بإذن المالك، و أنه (2) مؤطر تأطيرًا أخلاقيًا بأحكام الجهاد المعروفة . 

ذكرت في هذه المحاضرة كثيرًا من المفاتيح والأفكار برجاء الاستفادة من ذلك بمحاولة التوسع الطولي والعرضي فيها سواءً كانت فلسفية أو سياسية أو بعض الإشارات.

No comments:

Post a Comment