Sunday, January 29, 2012

تأملات في ألف لباولو كويلو صـ 20-25

كم أستمتع بالقراءة لباولو كويلو لأسلوبه الذي يغوص بالقارئ في داخل النفس فيجوب بين الروح والعقل ويمازج بين العلوم ويتساءل ويبحث دوماً عن الحقيقة، تلك الحقيقة التي أتساءل دوماً إن كانت هم كل إنسان على وجه الخليقة. وكم يعجبني حين يقتبس أفكار الفلاسفة فيطرحها بشكل حديث ومبسط. وأنا أقرأ رواياته الأخيرة ألف مررت بالعديد من الحوارات والأفكار التي جعلتني أتوقف عندها فأردت أن أطرحها هنا كنوع من التفكير بصوت عالٍ.

في صفحة 20 قال كويلو على لسان "ج" وهو شيخه الذي اعتقدت لوهلة أنه يمثل المسيح: "هذا لأنك -كسائر الناس على هذا الكوكب- آمنت أن الوقت كفيل بتعليمك التفرب إلى الله، لكن الوقت لا يعلّم، كل ما يفعله هو مدّنا بحس من الإعياء والتقدم في العمر"، وقد توقفت عند هذا الاقتباس الذي ذكرني بمقولة لرهام جمبي: "المفعمين بالمعاني هم الذين يبقون الدفء موجودا في هذا العالم الذي يزداد برودة كل يوم!... المعاني ... ليس الشمس إنما عامل البناء تحت الشمس..ليس ألعاب الطفل إنما بريق عينيه وهو يلعب ...ليس المثقفين في الصوالين الثقافية إنما الذين يتلقون الثقافة بشغف الجاهل كل يوم .. ليس الكتاب إنما القاريء الذي يصاب بالصداع من شدة التفاعل مع ما يقرأ .... تعلمون .. أصحاب المعاني .." وأضيف: ليس الوقت وإنما تفاعلنا مع الوقت وتحركنا وتغيرنا اتباعاً لقوانين الكون.

وفي صفحة 22 يقول: "بمستطاعك تغيير مستقبلك بجلب الماضي إلى الحاضر. الماضي والمستقبل موجودان في أذهاننا فقط، أما اللحظة الحاضرة فهي خارجة عن الزمن، إنها الأبدية" إننا نغير الحاضر بجلب تجارب الماضي مع محاولة التخلص من أثقال المشاعر المرتبطة بتلك الدروس ومسامحة النفس والتي دعا لها متخصصو تطوير الذات، ولكن أحياناً تؤثر علينا بعض التجارب الغير جيدة سلباً فتقيد مسيرتنا في حياتنا وحينها علينا التخلص من أغلالها حتى نغامر من جديد مع الحذر من السقوط الذي تفيدنا فيه تلك التجارب. وفي هذه اللحظة الحاضرة نعيش إذ تلتقط أعيننا هذه الصور وتسجل أذهاننا هذه اللحظات ونشعر بكل ما حولنا وكل شيء في هذه اللحظة بالذات له بصمة في الذهن مميزة لا يمكن أن تتكرر لدينا كما أشار العلماء، إنها لحظة أبدية ومميزة.


وتفكيري حول اللحظة الحاضرة جعلني أتساءل عن ماهية الزمن ولم هذه اللحظة خارجة عن الزمن ولكن هذا السؤال أدخلني في نظريات فيزيائية وفلسفية لم أخرج منها بجواب نهائي فقد اختلفت وجهات النظر حوله  ومنه: "تهدينا البداهة إلى حقيقة أن الزمن ليس ظاهرة مستقلة، ولكنه تجريد للحركة والأحداث في معنى من المعاني. تذكر إحدى روايات الخيال العلمي أن حاسبًا إلكترونيًّا حاول، في سياق بحثه عن طبيعة الزمن، دراسة فترة لازمنية، فعمد إلى إيقاف الزمن. لم يخطر في بال الحاسب أن إيقاف الزمن يُفضي إلى توقُّف الحركة وإلى توقُّفه هو، بالتالي، وإلى تجمد العالم بأسره! ولعل إدراكنا المحدود للزمن يُعزى إلى حقيقة كونه لغةً للتعامل مع الأحداث ... إننا لا نعرف ما هو الزمن على وجه الدقة، لكن المخ الإنساني يستطيع صَوْغَ مجرَّداتٍ في خضمِّ منظومة من المجاهيل. تتجسد شجاعة المفكرين في تبنِّيهم هذه المجرَّدات والانطلاق بها إلى الأمام. ولا يوجد هنا ما يدعو إلى الإحباط؛ إذ إن أهم الأفكار هي تلك التي لا يمكن تعريفها"(1)


وهكذا نحن في هذا الكون نظل نتساءل حول حقائق لا تدركها عقولنا ولكن تسيرنا الثقة بإلهنا العظيم الذي خلق تلك المعاني المجردة التي نعجز عن الوصول لحكم مطلق فيها ومع ذلك نفهم جزءًا منها. يقول كويلو: "أعرف ما يعنيه في السحر وفي الحياة: اللحظة الحاضرة فقط تكون الآن، لا يسعك قياس الزمن كما تقيس المسافة بين نقطتين، الزمن لا يمر، نحن البشر نجد صعوبة  هائلة في التركيز في الحاضر، إننا نفكر دوماً في ما فعلنا، وكيف يمكن لنا فعله أفضل، ونفكر في عواقب أفعالنا ولم لم نتصرف كما ينبغي، وإلا فإننا نفكر في المستقبل وما سوف نفعله غدًا؛ في ماهية الاحتياطات التي علينا اتخاذها، والمخاطر الوشيكة التي تنتظرنا، وكيف لنا أن نتجنب مالا نريده وكيف نحصل على ما حلمنا به دوماً" وهكذا تمضي حياتنا؛ في التأرجح بين الماضي والحاضر والمستقبل ويضيع حاضرنا أحياناً بالألم من الماضي والخوف من المستقبل وهذا ما يدعونا للتركيز والتفكير بوعي حول ما نفكر به الآن ونختار أفكارنا فلا نسمح للقلق أو الخوف أن يداهمنا تجاه الماضي أو المستقبل، بل أن نخطط للمستقبل ونتركه بين يدي إلهنا ونحمل دروس الماضي مجردة من الألم، وبهذا نعيش لحظتنا كأفضل ما يكون ونستمتع بها ونغوص فيها وتكون لبنة صالحة في بناء حياتنا ومستقبلنا وليس لبنة هشّة لا تساهم في بنائنا وجماله وقوته؛ بالوعي والإدراك والاختيار وأن نتحمل مسؤولية أفكارنا ونتصفحها بكل سهولة كما نريد نحن وليس كما تريد هي أن تغدو وتروح كما تشاء. 

في صفحة 23 يقول كويلو بلسان "ج": "لا هدف من المكوث هنا واستعمال كلمات لا تعني شيئاً، اذهب وجرب" يا لروعة هذه الكلمات حين تخرج فتبعث الحماس في النفس للانطلاق والعمل والتجربة بدل التنظير المجرد؛ حيث نتعلم لنعمل ونعمل لنتعلم، ويكمل "آن الأوان لترحل من هنا؛ اذهب واستول مجدداً على مملكتك التي أفسدتها الرتابة! كف عن تكرار الدرس نفسه؛ لأنك لن تتعلم أي جديد هكذا" فيلفت أنظارنا بهذه الكلمات لما نحن عليه -أحياناً- من تكرار يذهب حس الإبداع والاكتشاف، ويذكرني هذا بمناهجنا للمراحل الأولية في المدرسة حيث يظل الطالب يكرر ولا يتعلم! فمن ضوء تجرتي درّست منهجاً لطالبات مستوى أول في الجامعة وهم قد درسوه في المرحلة المتوسطة والثانوية ولكنهم لا يتذكرون منه شيئاً وطلبوا إعادته! أفلا يُذهب هذا التكرار الوقت، ويقتل البناء الذاتي -كما هو مشاهد- حتى تصبح بعض الأمور مرتبطة بالآخرين فيعزز الاعتماد على الآخرين. يقول كويلو: "تظن أنك موجود لأنك لست سعيداً وأن الآخرين موجودون وجوداً ناتجاً عن مشكلاتهم ويقضون وقتهم كله بالحديث مكرهين عن أولادهم وازواجهم ودراستهم وعملهم وأصدقائهم ولا يتوقفون ليفكروا: أنا هنا وأنا نتيجة كل ما حدث وما سيحدث، لكن أنا هنا إذا أخطأت يسعني تصويب خطئي أو أقله طلب الغفران، وإذا قمت بصواب فسيجعلني ذلك أسعد وأكثر اتصالاً بالآن" إنها الفجوة بين القيم والأفكار وبين الواقع المعاش، وبين أن نبحث عن ثرثرة نملؤ بها أوقاتنا ونعزز علاقاتنا حتى تصبح روابطنا وثيقة بفعل الشكوى وبين أعمال بناءة وإصلاحية نقوم بها لنشعر بالسعادة والتجديد لأنفسنا وللآخرين، فلم يمضِ الوقت بعد على صنع علاقات سعيدة تنشر طاقة إيجابية وعمل الخير في أرجاء هذا الكون حتى يبتسم.

ومن قراءتي للعديد من أعمال كويلو لاحظت أنه يربط بين الحياة الطائشة التي ينقصها الهدف والتنظيم والمبادئ وبين السعادة، فقد وجدت هذا في رواية فيرونيكا تقرر أن تموت وأجدها هنا في ألف، وأستغرب هذا الأمر إذ أنه لا ينسجم مع تناسق هذا الكون وقوانينه التي تعتمد على التنظيم وأرى كويلو يؤمن ببعضها حين يشير لما أطلق عليه طاليس القيمة الكلية للكون كما في الخيميائي وغيرها إذ ينعكس إيمانه بالروح الواحدة للكون وبأن "الطبيعة صوت الله" كما يطلق عليها في ألف، فحين نتواكب مع الكون ونكون جزء منه فنحن كذلك جزء من طريقة تنظيمه فكيف نعتبر ما يخالف هذه القوانين أمراً يجلب السعادة، فيقول في صفحة 25: "قضيت جزءًا كبيراً من شبابي أجوب العالم كهيبّي، وكم من المال امتلكت حينها؟ ولا فلس. كدت لا أملك ما يكفي لتسديد أجرة النقل، ومع ذلك لا أزال أعتبر تلك الأيام أفضل أيام شبابي؛ الإفراط في الأكل والنوم في محطات القطار والعجز عن التواصل لجهلي اللغة والاعتماد على الغير مكرها لمجرد إيجاد مكان أقضي فيه ليلتي" ربما ما يشعره بروعة تلك الأيام هو أن ما يبقى من الذكريات أحياناً جمالها بينما تذهب مرارتها، أو أنها أشبعت جانباً كان يرجوه، وقد يبرر قوله في نفس الصفحة هذا الشعور حين يقول: "بعد أسابيع وأنت تتجول وتصغي إلى لغة لا تفهما، وتتداول عملة لا تفقه قيمتها، وتجوب شوارع لم تجبها من قبل تكتشف أن (الأنا) القديمة فيك -إلى جانب كل شيء تعلمته- لا جدوى منها مطلقاً أمام تلك التحديات الجديدة، وتبدأ بالإدراك -من موقع دفين في عقلك الباطن- أن فيك شخصًا أكثر تشويقًا وأكثر مغامرةً وأكثر انفتاحًا على العالم وعلى التجارب الجديدة" وهنا يتكشف جانب إيجابي حين يتخلص من كل الترسبات الثقافية والمجتمعية فتبقى ذاته الحقيقية بعيدًا عما تراكم عبر الزمن في بيئته فيفهم ذاته أكثر ويكتشف نفسه بشكل أعمق ليدرك من هو وماذا يريد.


(1) من محاضرة للمهندس فايز فوق العادة رئيس الجمعية الجمعية الكونية السورية

No comments:

Post a Comment